"يا جعفر أوصيك بأصحابي خيرا" كانت هذه الوصية هي آخر ما أوصى به الإمام الباقر (عليه السلام) حين حضرته الوفاة ولده وخليفته الإمام الصادق (عليه السلام)، ومن المؤكد إن آخر الوصايا هي أكثر الوصايا أهمية وإلحاحا في ذهن الموصي ! فأجابه الإمام الصادق: "جُعلتُ فداك والله لأدعنّهم والرجل منهم يكون في المِصْر فلا يسأل أحدا ". فماذا فعل الإمام الصادق (عليه السلام) ليبرّ بقسمه، ولينفذ وصية أبيه، لابد أن تكون له رؤية، وأن يضع مخططاً يعمل من خلاله على المحافظة على الرصيد الإنساني الثري المتمثل بمجموعة مميزة من التلاميذ وطلّاب العلم الذين تخرّجوا على يد الإمام الباقر (عليه السلام)، بل ولا بدّ أن يتعهدهم برعاية علمية خاصة ومركّزة تجعل الواحد منهم -وكما وصف - مكتفيا علميا، وغنيا عن سؤال الآخرين !! دولتان كانتا في حالة انشغال عن الوضع العام للأمة الإسلامية، دولة في حالة احتضار وعلى وشك السقوط والاندثار، ودولة أخرى تحاول النهوض والقيام؛ وما بين سقوط دولة، وقيام آخرى، كانت فرصة ذهبية سانحة للإمام الصادق (عليه السلام) لينطلق بمشروعه العلمي والثقافي؛ فكان عهده طفرة علمية نوعية لم يشهد لها مثيل خلال عهود أئمة أهل البيت من آبائه أو أبنائه (عليهم السلام)، وكانت الذخائر العلمية الذي خلّفها الإمام الصادق في المجالات العلمية كافّة -بحق- مفخرة المذهب، وأصبحت عبارة: "قال الإمام الصادق" شعارا في التراث الروائي الشيعي، وصار مذهب التشيّع يحمل عنوان: "المذهب الجعفري". لقد قام الإمام الصادق (عليه السلام) بتطوير وتوسيع المدرسة التي أسّسها أباه الإمام الباقر، فحوّلها إلى جامعة استقطبت طلاب العلم من البلاد الإسلامية كافّة، ولم تنغلق على الموالين لأهل البيت فقط، فكان المخالف يتلّقى العلم على يديّ أبي عبد الله الصادق إلى جانب الموالي؛ فها هو أبو حنيفة يتردد على دروس الإمام عليه السلام وينهل من علومه، بل ويفتخر بتلك السنتين اللتين قضاهما مرتادا لجامعة الامام، وكان يردد: "لولا السنتان لهلك النعمان" وكذلك تتلمذ على يديه الإمام مالك، وقد أحصى علماء الرجال طلاب الإمام الصادق ومن روى عنه فكانوا أربعة آلاف طالب، وما حوزاتنا العلمية اليوم إلا امتدادا لتلك الحوزة المباركة. وكما تنوع طيف تلاميذ الإمام اجتماعيا وطبقيا ومذهبيا، كذلك تنوعت العلوم المدروسة في جامعته، ولم تقتصر على الفقه والعقائد والقرآن، وغيرها من علوم الشريعة الإسلامية، بل كان عليه السلام يدرّس الطب والفَلَك وعلم الكيمياء والرياضيات والفلسفة وعلم التربية والأخلاق وغيرها. كما حرص الإمام الصادق (عليه السلام) في إعداده لتلامذته على التخصّص العلمي، فكان يستقطب لكل مجال علمي من يجده متميزا في ذلك المجال، فتخصّص بعضهم في الفقه والتفسير، و بعضٌ في الفلسفة وعلم الكلام، إضافة إلى مجالات علمية أكثر تخصصا كالكيمياء التي برع بها تلميذه جابر بن حيان، ولا نغفل عن ذكر تلميذه المميز المفضّل بن عمر الذي تخصّص في علم التوحيد وحكمة الوجود، والذي أملى عليه الإمام كتابه الشهير "توحيد المفضّل" حيث بقي اسمه مقترنا بهذا السِفر العظيم إلى يومنا هذا . وكما شجّع الإمام تلامذته على التخصّص العلمي فقد شجّعهم على التدوين والاحتفاظ بمدوناتهم للرجوع إليها عند الحاجة؛ فكان عليه السلام يوصيهم بقوله: "احتفظوا بكتبكم فإنكم سوف تحتاجون إليها"؛ فكانت الثمرة المباركة لهذا السلوك العلمي أن ألّف بعض من تلامذته "الأصول الأربعمائة"، وهي أربعمائة كتاب يشتمل على الروايات التي سُمعت من الإمام مباشرة وبدون واسطة، والتي أصبحت المصدر الأساسي للكتب والمجاميع الحديثية التي دُوّنت فيما بعد، وبالخصوص الكتب الأربعة التي هي أمّهات كتب الحديث عند الشيعة الإمامية. اما المناظرات العلمية فكانت جانبا من الجوانب العلمية التي حثّ عليها الإمام الصادق تلامذته كلا باختصاصه؛ ولقد جلس عليه السلام وهو يستمع مسرورا إلى المناظرة التي أجراها تلميذه هشام بن الحكم مع زعيم المعتزلة، فبعد أن قصّ عليه هشام تفاصيل تلك المناظرة ضحك الإمام عليه السلام وأثنى عليه قائلا: "يا هشام من علّمك هذا؟ قال هشام: "يا بن رسول الله جرى على لساني"، فقال عليه السلام: "يا هشام هذا والله مكتوب في صحف إبراهيم وموسى". لقد حقق الأمام الصادق عليه السلام - بنجاح منقطع النظير- وصية أبيه، وتخرّج على يديه ثلّة متميزة من التلاميذ الذين أثروا المشهد العلمي، وحملوا تراث أهل البيت بكل اقتدار وجدارة؛ فكانوا نجوما في سماء العلم، ومفخرة للمذهب، وكما أراد الإمام الصادق كان كل واحد منهم موسوعة علمية لا يحتاج إلى الرجوع إلى أحد في سؤال أو إشكال علميّ.
اضافةتعليق
التعليقات
العراق2024-05-05
احسنتم .. رحم الله والديكم