في ظل ما يُعرف بـ"الرأسمالية الثقافية"، أصبحت رموز الهوية تُباع وتُشترى. فالحجاب، مثلاً، لم يعد رمزًا دينيًا فقط، بل منتجًا بصريًا يُعاد تصنيعه ليناسب المعايير الجمالية العالمية.
فظهرت على هذا الأساس صناعات كاملة للحجاب تحت مسمّيات مثل "الحجاب الموضي"، و"الحجاب الرياضي"، و"الحجاب الراقي"، تتنافس عليها شركات كبرى.
فالجينز، مثلاً، على بساطته، يحمل رمزية ثقافية قوية؛ فهو زيٌّ عالمي يُستورد عادةً من الغرب، لكنه يُلبس محليًا بصيغ مختلفة. وظهوره في مجتمعات محافظة، خاصةً حين ترتديه نساء محجّبات، يثير جدلاً مستمرًا: فهل يمثّل تنازلاً عن الهوية أم إعادة تشكيل لها؟
في الحقيقة، الجينز لا يمثّل مجرد "سروال"، بل يُحمّل بدلالات مثل "التحضّر"، و"التحرّر"، أو حتى "التغريب".
لكن، في المقابل، أصبح الجينز - شأنه شأن الحجاب - عابرًا للثقافات والطبقات، مما يُعيد طرح السؤال: من يملك الحق في تعريف ما هو "مناسب" أو "أصيل"؟ هل السوق هي التي تصوغ الذوق العام، أم المرجعيات الثقافية والدينية؟
فالملابس اليوم لم تعد مجرد وسيلة للستر أو الزينة، بل هي انعكاس لهوية الفرد. فإذا كانت الملابس محتشمة وتمثل حجابًا شرعيًا، عبّرت عن الهوية الإسلامية وعكست معايير الالتزام والحدود والضوابط. أما إذا كانت الملابس غير محتشمة، عكست هوية الفرد "المنفتح".
لهذا السبب، قد نرى أن الحجاب لم يسلم بتاتًا من الحرب الناعمة؛ فاستغله العدو في حرب الهويات، وكانت أبرز عمليات سلب الهوية من خلال انتزاع الحجاب والحشمة من الفرد المسلم. وهذا ما نشاهده في فرنسا تحديدًا، حيث حاربت - ولا تزال تحارب - الحجاب، لأنه يمثل رمزًا مهمًا للتعبير عن الهوية الإسلامية.
وهنا لا نقصد بتاتًا مناقشة ما إذا كان الجينز يحقّق الحجاب الشرعي أم لا، بل نركّز على مبدأ الهويات الثقافية، كون الجينز يعكس الهوية الغربية ولا يمثل الهوية العربية أو الإسلامية. فمثلما أن الثوب الطويل المسمى بـ"الدشداشة" يمثل هوية عربية، كذلك الجينز يمثل هوية ثقافية غربية، ولا يمكن لأحد إنكار ذلك.
فاللباس اليوم ليس فقط موضوعًا للذوق أو الالتزام، بل أداة مقاومة واستعادة للذات.
حين تختار امرأة مسلمة أن تلبس زيًا معينًا – أكان جينزًا أو غيره – فهي تمارس سيادتها الرمزية على جسدها، وتُعيد تعريف صورتها بعيدًا عن النموذج المفروض عليها، سواء من داخل المجتمع أو من خارجه.
في هذا السياق، تصبح المعركة الحقيقية ليست بين الحجاب والجينز، بل بين الاختيار والإملاء، بين الاستقلال والقولبة، بين الذات الحيّة والسوق المفروضة.
وشخصيًا، ككاتبة صحفية وامرأة تتبضّع الملابس، أجد أن التمسك بالأصالة لا ينفي التنوع في الملبس، ما دام لا يتنافى مع أسس الاحتشام في الدين الإسلامي، ولا يتعدى الحدود الشرعية، ولا يُلغي الهوية الإسلامية.
فالتوازن هو أساس كل شيء، حتى المرأة المحجبة بإمكانها أن تعكس هويتها الثقافية من خلال التوازن في اختيار ما ترتديه، لا ما يفرضه السوق عليها.
ففكرة إلغاء الجينز من الثقافة العربية ليست بالأمر السهل، خصوصًا أنه لا توجد خزانة ملابس تخلو من الجينز، كونه يُعتبر سروالًا مريحًا وعمليًا.
لكن ما يمكننا التحكم به هو المعايير التي تخضع لها صناعة الجينز، بحيث يكون أقرب إلى الهوية الإسلامية ويخضع لمعايير الاحتشام التي فرضها الدين الإسلامي، سواء على الرجل أو المرأة.
ففي عالم تحكمه العلامات التجارية والترندات، باتت العديد من مكونات الهوية الإسلامية – وبالأخص الملابس – عرضة للتسليع، حيث يتم نزعها من سياقها الروحي وتحويلها إلى أنماط موضة أو محتوى قابل للترويج والربح (الجينز الممزق خير مثال).
فالحجاب، بصورة عامة، لم يعد مجرد التزام ديني أو رمزي، بل صار في بعض الحالات سلعة تُروّج تحت منطق "الحجاب العصري"، يخضع لمعايير الجمال الغربي والتسويق، وهو ما قد يُفرغه من دلالة الحشمة والأخلاق.
إذن، كيف نُواجه هيمنة الأسواق الغربية؟
المواجهة هنا ليست عسكرية ولا حتى سياسية، بل هي في جوهرها ثقافية ورمزية.
فمقاومة الهيمنة السوقية على الهوية الإسلامية تستلزم وعيًا جديدًا يُدرك كيف تتغلغل آليات الاستلاب في تفاصيل الحياة اليومية، من خلال الإعلانات، والمحتوى الرقمي، وحتى المنتجات "الإسلامية" المصمّمة وفق معايير السوق.
وهذا الوعي لا يكتفي بالرفض، بل يسعى إلى إعادة إنتاج المعنى من الداخل، عبر تجديد الخطاب الثقافي الإسلامي، وتعزيز الهوية الإسلامية، ودعم الإنتاج الذي يحمل الأصالة، وينطلق من المنظومة القيمية الإسلامية، لكنه يخاطب لغة العصر ويتفاعل مع أدواته دون أن يُسحق تحت منطق السوق الغربي.
أي دعم الشركات، والمحلات، والمصممين الذين يأخذون مسار الاحتشام بصورة تجعل الملابس تتلاءم مع الحدود الإسلامية، وتعزز الهوية الثقافية عند المتبضعين، وتخلق عندهم روح الاستغناء عن الموضة الغربية.
اضافةتعليق
التعليقات