ماهو معروف أن التخطيط لعمل أو مشروع كبير لابد من تخطيط وادارة واستعداد وتهيأة لإدارته لتحقيق أكبر هدف نجاح للعمل المنشود، فكيف إذا كان المشروع والهدف إلهي ووحيّ ورسالة إلى أهل الأرض، فقد هيأ ﷲ الوصي أمير المؤمنين (عليه السلام) ليكون شريكاً في دعوة الرسول منذ ولادته في الكعبة المشرفة حتى أنه لم يسجد لصنم في الوقت الذي كان بعض الكفار يصنع إلهّه من التمر أو الطين والحجارة.
ثمَّ كان رفيقا ملازما لرسول الله (صلَى الله عليه وآله) في السلم والحرب. وأقرب إليه من أي شخص في الأزمات الشداد، ويوم أُحد خير شاهد، إذ لم يبقَ من المسلمين غير أمير المؤمنين (عليه السَّلَام) يذبّ عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، ويحميه من سهام الأعداء وسيوفهم، حتى سمع النَّاس نداء جبرائيل إذ قال (عليه السَّلَام): (لا سيف إِلَّا ذو الفقار لا فتى إلَّا عَلِيّ). واختار له ﷲ الزواج المبارك من فاطمة الزهراء (عليها السلام) بضعة الرسول وسيدة نساء الجنة.
وفي أواخر عمره الشريف (صلى ﷲ عليه وآله) كان الإمام عَلِيّ (عليه السَّلَام) ملازمًا له وقريبًا منه، حيث يقول الإمام (عليه السلام): (ولَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ الله (صلَّى الله عليه وآله) وإِنَّ رَأْسَه لَعَلَى صَدْرِي، ولَقَدْ سَالَتْ نَفْسُه فِي كَفِّي فَأَمْرَرْتُهَا عَلَى وَجْهِي، ولَقَدْ وُلِّيتُ غُسْلَه (صلى الله عليه وآله) والْمَلَائِكَةُ أَعْوَانِي، فَضَجَّتِ الدَّارُ والأَفْنِيَةُ، مَلأٌ يَهْبِطُ ومَلأٌ يَعْرُجُ، ومَا فَارَقَتْ سَمْعِي هَيْنَمَةٌ مِنْهُمْ، يُصَلُّونَ عَلَيْه حَتَّى وَارَيْنَاه فِي ضَرِيحِه)[6].
وفي رواية: إن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) طلب من أمير المؤمنين الإمام عَلِيّ بن أبي طالب (عليه السَّلَام) أن يتناول في كفّه نفسه الطَّاهرة ويمررها على وجه إذ قال (صلوات الله تعالى وسلامه عليه) للإمام عَلِيّ (عليه السلام): (ضع يا عَلَيّ رأسي في حجرك، فقد جاء أمر اللّه تعالى، فإذا فاضت نفسي فتناولها بيدك، وامسح بها وجهك ثم وجّهني)، فكان الإمام (عليه السَّلَام) ملازمًا وقريبًا من النَّبيّ (صلَّى الله عليه وآله) حيًّا وميّتًا.
إذ لم يكن النبي أن يدني أمير المؤمنين (عليه السَّلَام) منه إلا بأمر من الله (عزَّ وجلّ)، فمنذ الصّغر شاءت الأقدار أن يتولى كفالته، وحينما بلغ الإمام (عليه السَّلَام) أمر سبحانه. وتعالى أن يزوجه ابنته، ثم أمره يوم غدير خم أن يبلغ بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾[8]، فقال (صلوات الله وسلامه عليه): (من كنت مولاه فعلي مولاه)[9]. فكانا (صلوات الله تعالى وسلامه عليهما) حقًا روحًا واحدة بجسدين طاهرين.
وفاة النبي (صلى ﷲ عليه وآله) وأثرها على أمير المؤمنين (عليه السلام)
الحديث حول وفاة الرسول الأعظم (صلى ﷲ عليه وآله) وموقف الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) من هذه الفاجعة العظمى والمصيبة الكبرى التي لم يشهد لها التاريخ الاسلامي مثيلا. عندما مرض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعدما بلغ من العمر ثلاثا وستين سنة، نعى نفسه الطاهرة بمشهد مؤلم من أن شمس وجوده المبارك قد اقتربت من الغروب. قال تعالى: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)).
يقول (عليه السلام): وهو يلي غسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتجهيزه: بأبي أنت وأمي لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة والأنباء وأخبار السماء خصصت حتى صرت مسليا عمن سواك، وعممت حتى صار الناس فيك سواء، ولولا أنك أمرت بالصبر، ونهيت عن الجزع لأنفدنا عليك ماء الشؤون ولكان الداء مماطلا، والكمد محالفا، وقلا لك، ولكنه مالا يملك رده، ولا يستطاع دفعه، بأبي أنت وأمي اذكرنا عند ربك، واجعلنا من بالك[7].
ويتضح من قول أمير المؤمنين (عليه السلام) مدى ألم المصيبة في نفسه الطاهرة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى أنه جعلها موضع تعزٍّ له في فقده لمولاتنا الزهراء (سلام الله عليها) وهذه الفاجعة العظيمة الثانية بعد وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم). فيقول: إنّ صفيّتك وإن عظم بفراقها المصاب وقلّ عنها الصبر والتحمل إلَّا أنّ فراقك قد كان أعظم وأجلّ، ومصابك أشدّ وأثقل فكما صبرت في تلك الرّزيّة العظمى فلئن أصبر في هذه المصيبة كان أولى وأحرى[6].
ونجد أمير المؤمنين (عليه السلام) يشير إلى انقطاع الوحي وأخبار السماء بموت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديثه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي يكشف لنا بوضوح عمق تلك العلاقة من جميع جوانبها الفردية والاجتماعية والرسالية والجهادية والأخلاقية، التي تبرز مكونات الشخصية العظيمة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
ثم أكد (عليه السلام) شدة هذه العلاقة والملازمة من خلال تأثره بفراق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما بدأ (عليه السلام) يشرح حالاته معه (صلى الله عليه وآله وسلم) حين وفاته وهي من اختصاصاته (عليه السلام) عبر وصيته (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويظهر شدة التأثير أعظم كلما كانت نسبة تأثير الفراق أشد، وهو في قوله: (فلقد وسّدتك في ملحودة قبرك) أي اتّخذت لك وسادة في قبرك المعمولة فيها اللَّحد وهو كناية عن دفنه له فيها بيده.
فحين نعيش ذكرى وفاة أشرف الأنبياء وخاتمهم، الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) حري بنا جميعا أن نقتدي بهذه الشخصية العظيمة التي أضاءت بأنوار علمها عتمة الظلام البشري حين كان يتخبط الإنسان في متاهات الجهل والتعصب والاقتتال والتشرد والأحقاد والضغائن التي فتكت ببني البشر.
فكانت أعظم المصائب عند الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام). فكيف حالنا نحن الذين نعيش أشد أيام الزمان من صراعات الفتن فما علينا إلا بالمخطط الذي رسمه لنا بعد وفاته هو التمسك بالثقلين كتاب الله والعترة، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق. فمالنا سواهما من ذخيرة في سفينة الحياة وأمواج الفتن التي تعصف بنا بين الفينة والأخرى.
************
[6] ـ منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة , حبيب الله الهاشمي الخوئي : 13/12 .
[7] ـ نهج البلاغة , خطب الإمام علي ( ع ) : 2 /228 .
١١، ١٢ بحار الأنوار.
اضافةتعليق
التعليقات