في سيرة الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) نقرأ فصلًا من المظلومية النادرة، ليس فقط في حجم المصاب الذي عاشه، بل في طريقة تعامله مع هذا المصاب وتحويله إلى منهج حياة. كان شابًا مريضًا في خيام كربلاء، لا يقوى على حمل السيف، لكنه حمل أوجاع الأمة وهمّ الرسالة في قلبه. شهد قتل والده الإمام الحسين (عليه السلام)، وسبي عمته عقيلة بني هاشم السيدة زينب (عليها السلام)، وسار أسيرًا مكبّلًا من أرض المعركة إلى مجالس الطغاة، فهل هناك مظلومية أعظم من هذه؟!
ورغم كل هذا، لم ينكسر، بل صمد، وأدار معركته بطريقة مختلفة تمامًا. لم تكن معركة عسكرية، بل معركة بناء داخلي، وتربية روحية، وصياغة وعي جديد. لقد اختار أن يردّ على المظلومية بالدعاء، على السيف بالكلمة، وعلى الانكسار بالسجود. لم يجعل من مأساته حاجزًا أمام عطائه، بل جعلها منطلقًا لبناء مدرسة تهذيبية استثنائية.
ففي الصحيفة السجادية، لم يكتب الإمام مجرد أدعية، بل كتب فلسفة حياة، دروسًا في التوكل، في الصبر، في التواضع، في المسؤولية الاجتماعية، في مقاومة الظلم من داخل النفس. كانت كلماته نورًا في زمن الظلام، ومنارة لمن أراد أن يفهم جوهر العبادة. لم يكن يدعو لله من باب الخوف فقط، بل من باب الحب، من باب العرفان، وكان يسجّل هذه المناجاة لتكون ميراثًا خالدًا للأجيال.
كانت عمته زينب الكبرى (عليها السلام) الحصن الذي حماه في أول الطريق، وكانت عينها تبكي عليه، لكنه ما لبث أن أصبح هو السند المتبقي لبيت النبوة. العلاقة بينهما لم تكن فقط قرابة دم، بل كانت وحدة هدف، وحدة حزن، وحدة مسؤولية. ومِن بين دموعهما كانت تُبنى خطوات المرحلة القادمة. فكلّما اشتد عليه الألم، صلّى. وكلما ضاقت به الأيام، رفع يديه إلى السماء. وهكذا علّمنا أن الإنسان، مهما اشتدت عليه المآسي، قادر على أن ينهض، وأن يخلق من المحنة مشروعًا، ومن الألم بصيرة، ومن السجود طريق نجاة.
لم يكن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يتحدث عن الحياة من برجٍ عاجي، بل من وسط الجراح، من قلب التجربة. هو المظلوم، المسجون، المحزون، ومع ذلك ظل يعمل، ويربّي، ويدوّن، ويصلّي، ويغفر، ويحب، ويبني.
نعم، لقد علّمنا أن الإنسان يستطيع أن يرسم خريطة لحياته، حتى لو وُلد في ركام المآسي. فمنه تعلّمنا أن قيمة الإنسان لا تُقاس بما مرّ به من نكبات، بل بكيفية تجاوزه لها. ومنه فهمنا أن العبادة ليست انعزالًا عن الواقع، بل انغماس في مسؤوليته. وأن الدعاء ليس ضعفًا، بل سلاح الأقوياء، كان دعاؤه عليه السلام عند الشدة والجهد وتعسر الأمور (اللهم إنك كلفتني من نفسي ما أنت أملك به مني، وقدرتك عليه وعلي أغلب من قدرتي، فأعطني من نفسي ما يرضيك عني، وخذ لنفسك رضاها من نفسي في عافية).
إن سيرة الإمام زين العابدين (عليه السلام) درس مفتوح لكل إنسان يبحث عن طريق في وسط الظلام، عن أمل وسط الخوف، عن معنى للحياة في زحمة الانكسارات. لم تكن حياته سلسلة راحة، بل سلسلة صبر. لكنه صنع من صبره منهجًا، ومن سجوده مدرسة، ومن ألمه نهضة.
اليوم، ونحن نعيش في عالم يموج بالتحديات، تظل سيرة سيد الساجدين (عليه السلام) دليلًا على أن الإنسان بإمكانه أن ينهض من تحت الركام، وأن يزرع أثرًا، وأن يترك بصمة، وأن يخلّد اسمه لا بقوته، بل بإيمانه وصبره وإخلاصه.
سلامٌ عليك يا زين العابدين، يا من علّمتنا أن الطهر لا يُهزم، وأن الذكر لا يُطفأ، وأن المظلوم قادر أن يكون معلّمًا للبشرية، إذا جعل من جرحه رسالة ومن دمعته صلاة.
اضافةتعليق
التعليقات