تتباهى الأمم بمجدها، وكلٌّ منها يروي تاريخ علمائه، ولكن تاريخهم يبقى منقوصًا، محذوفًا منه، بينما يظل كبيرهم ومعلّمهم وأساس المعرفة عندهم هو البرهان الأعظم، والنبراس الذي أنار كل الطرق، حتى صار الناس اليوم بسببه يعرفون كيف يتكلمون بالحكمة، وكيف يصنعون الدواء الذي يشفي الأجساد والأرواح. فإن جحدوا معرفته، فهو المنارة التي لا تزال تضيء للبشرية دربها بعد ألف عام.
رجلٌ لم يأتِ مثله التاريخ، فهل تخيّلتَ يومًا أن تدرس الكيمياء في معمل أستاذك، وهو يتلو آيات القرآن في خلواته؟ أو أن تتعلّم الفلسفة على يد فيلسوفٍ لا ينفصل علمه عن تقواه؟ هذا هو العالِم الفريد الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، وهيهات أن تجد أمةً تتحدث عن عظمة عالمها بالمقدار الذي نتحدث به نحن شيعته عن عظمة إمامنا، فعلماء الأمم أعلام في تراثها، وإمامُنا (عليه السلام) كان علامةً فارقةً في تاريخ العلم والإنسانية قاطبةً؛ فهو الذي أوقف العالم على أسس الحوار والمناظرة، وهو الذي وضع لبنة الكيمياء الحديثة، وهو الذي أخرج العلم من أضيق المذاهب إلى أرحب الآفاق.
مؤسس النهضة العلمية الشاملة
لم يكن الإمام الصادق (عليه السلام) مجرد عالم دين تقليدي، بل كان قائدًا لثورة فكرية وعلمية غير مسبوقة. في الوقت الذي كانت فيه الدولة الإسلامية تموج بالاضطرابات السياسية، أدار الإمام ظهره للصراعات، وفتح أبواب مدينة جدّه (صلى الله عليه وآله) على مصراعيها، مؤسسًا أول "جامعة إسلامية حرّة" عرفها التاريخ.
ولم تكن مدرسته حكرًا على مذهب أو طائفة، بل اجتمع تحت قبتها آلاف الطلاب من شتى الخلفيات والملل، يتعلّمون ويناقشون في مناخ من الحرية الفكرية النادرة. فكان منهم شخصيات معروفة، وكان منهم علماء الطبيعة العباقرة، ولكل بابٍ له فيه بصمة وعلم قد أنار طريق الآخرين، فكان الأب لهم بلا منازع، بعبقريةٍ متعددةٍ يتّسع الأفق فيها ليشمل كل العلوم، وهنا تكمن المعجزة التي لم تتكرر.
فلم يقتصر عطاء الإمام (عليه السلام) على علوم الشريعة والفقه، بل شمل كل مجالات المعرفة الإنسانية:
في الكيمياء: وضع الأسس التجريبية المنهجية، فكانت مختبراته أولى معامل البحث العلمي.
في الطب: سبق عصره بوصف دقيق لأعضاء الجسم ووظائفها، خاصة في مجال الهضم والدورة الدموية.
في الفلك: كانت له آراء ونظريات أذهلت العلماء.
في الأخلاق والفلسفة: علّم الناس كيف يكون العقل وسيلة للوصول إلى الله، وكيف تُترجم العقيدة إلى سلوك يومي وأخلاق رفيعة.
لقد رأى الإمام الصادق (عليه السلام) أن الدين والعلم توأمان لا ينفصلان، فجمع بين سلطان الروح وسلطان العقل، وصاغ منهما رؤية كونية متكاملة.
قبس من حِكم صادق العترة
أما حكمته (عليه السلام)، فهي بحر لا ساحل له، لا تتقادم بتقادم الزمن، ولا تتبدل بتبدل الأجيال. فكلماته النيّرة لا تعالج مشاكل الماضي فحسب، بل تقدّم إجابات ناصعة على إشكاليات الإنسان المعاصر المعقّدة.
فتأمّلوا معي وصاياه الخالدة في أدب الحوار، واحترام الرأي الآخر، وإدارة الوقت، وأخلاقيات التجارة، ومواجهة الضغوط، لتدركوا أننا أمام فيلسوف إنساني فذٍّ، عرف أعماق النفس البشرية، ووضع دستورًا كاملًا للحياة الكريمة، التي يلتقي فيها الرزق بالرضا.
إنّ حِكم الإمام الصادق (عليه السلام) صالحة لكل زمان ومكان؛ تبدأ من نقطة بسيطة في حياة الفرد، ولكنها لا تتوقف عند حد، بل تمتد لتشكّل نظامًا أخلاقيًا متكاملًا يصلح الأرض ويقيم العدل. فكلماته تعبر الأزمنة، وتخترق الحضارات، لتستقر في النفوس، فتنيرها وتصلحها.
وأكبر دليل على ذلك واقعُنا اليوم، وأحداثُ ساعته، حيث تتسابق الأيادي البغيضة، وترتفع أصوات النشاز، لتصفّق للزيف والرياء، فأصبح "عمل الخير" في زمننا هذا يُؤجَّل حتى تُجهّز الكاميرات، وتُرفَع الأستار عن المحتاج، وتُعظَّم القليل من الصدقة، لتصبح "مشهدًا مرئيًا" يتهافت عليه المتسوّقون بالشُّهرة، لا "فعلةً خفيةً" تدركها الشمال قبل اليمين، لا كما أراد الله ورسوله.
وهنا يبرز حديث الإمام الصادق (عليه السلام)، مؤدِّبًا ومهذِّبًا لهكذا أفعال، واضعًا المعيار الحقيقي للإحسان، حيث قال:
«إني رأيتُ المعروف لا يتمّ إلا بثلاث: تعجيله، وستره، وتصغيره. فإنك إذا عجّلته هنّأته، وإذا سترته أتممته، وإذا صغّرته عظُم عند من تُسديه إليه».
وهذه الكلمات ليست مجرد نص تاريخي، بل هي ثورة أخلاقية في ثلاث كلمات:
تعجيله: لقتل روح التسويف والرياء، ولإدخال السرور على قلب المحتاج في أسرع وقت.
ستره: لحماية كرامة الآخذ، وصَون مشاعر الفقير، وإخلاص النية لله وحده.
تصغيره: لتحطيم غرور المعطي، وتكبير أجر العمل في ميزان الله، وجعل الفضل لله وحده.
وهي حكمة تذكّرنا بأن قيمة العمل لا تكون بضجيج الإعلام وحجم الكاميرات، بل بصدق النيّة، وسرعة التنفيذ، وحماية الكرامة.
وهكذا كان أئمتنا، وهكذا علمونا أن نكون أصحاب مبادئ، لا أصحاب مشاهد. وأن نصنع الخير لأنفسنا وللآخرين، لا لأنظار المتفرجين. ووراء كل هذه العظمة، كان هناك إنسان متواضع، يعمل في بستانه بيديه، يتفقّد فقراء المدينة في الخفاء، يملأ قلبه الحب والرحمة للجميع، كان يجسّد العلم العملي، والأخلاق العملية، فكانت سيرته ترجمة حيّة لكل ما يعلّمه، ودعوة صادقة للتأمّل في المكانة الرفيعة التي يمكن أن نصل إليها عندما نقدّم العقل على الجهل، والعلم على التعصّب، والحكمة على التهوّر.
بل إنها دعوة لنتعلّم من مدرسته:
كيف نختلف دون أن نختلف،
وكيف نسأل دون أن نجرح،
وكيف نعرف دون أن نتعصّب.
وهكذا يبقى إمامُنا وشمسُ سمائنا، جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)، في قلوبنا ومنهجًا لحياتنا، وليس مجرد عالمٍ عاش في حقبةٍ زمنية وانتهى، بل هو نبضٌ حاضر في ضمير الوجود، ونهجٌ سامٍ لا يغيب.
إنه المعلم الذي لم تُنجِب الأمم مثله، والعالم الذي سبق قرونه، وأضاء لنا دروبنا في ظلمات الجهل والتعصّب.
فطوبى لنا نحن الذين انتمينا إليه، وورثنا حبّه، وسلكنا طريقه.
وطوبى لنا بإمامٍ جعل من العلم دينًا، ومن الأخلاق فريضة، ومن التواضع تاجًا.
وهو إرثُنا الذي يتحدّى الزمن، فلن تُخجلنا الأيام أمام تاريخه، ولن نخذل وصاياه، وسنسير على دربه، حاملين مشعل علمه وخلقه، مؤمنين أننا باتّباعنا له نحن الأغنى، والأسعد، والأقرب إلى الله.
فإنه فخرُنا الذي لا يُدانى، وعزُّنا الذي لا يُضام، ومجدُنا الذي خُلق ليبقى. فالسلام عليك يا ابن رسول الله، يا من علّمتَ العالم كيف يكون الإنسان.
اضافةتعليق
التعليقات