في تاريخ الإنسانية محطّات يقف الزمن عندها خاشعًا، وتغدو الكلمات فيها عاجزة عن احتواء عمق الألم وامتداد الدرس. وتبقى كربلاء، بأبعادها التراجيدية والروحية والرسالية، الحدّ الفاصل بين النور والظلمة، بين الحق والباطل، بين الثورة الهادفة والانحراف المهلك.
ليست كربلاء مجرّد واقعة طويت صفحتها في عاشوراء سنة 61هـ، بل هي مرآة لكل عصر، تنعكس فيها وجوه الطغاة كما تنعكس فيها صورة المظلومين الصابرين، ويظل فيها الحسين عليه السلام معيارًا تُقاس به كل الثورات، ولا يُقاس هو بثورة. فـ"لا يوم كيومك يا أبا عبد الله" ليست عبارة تذكارية، بل قاعدة فكرية وعقائدية تبين خصوصية ما جرى في كربلاء، ومدى عمق جراحها في جسد الأمة إلى قيام الساعة.
إذ لا يمكن أن تقاس أي تضحية بتضحية سيد الشهداء ولايمكن أن تقاس أي ثورة بثورة سيد الشهداء ولا يمكن ان يقاس أي ثائر بشخصية سيد الشهداء .ما يؤكد هذا الكلام ما ورد في زيارته عليه السلام : السلام عليك يا قتيل الله وابن قتيله . هذه الزيارة خاصة بسيد الشهداء، قائد الثورة الحسينية ، حجة الله المعصوم ، خامس أصحاب الكساء الذي ما ذكر مصابه عند أحد من أنبياء الله منذ آدم الى خاتم النبيين عليهم وعلى نبينا وآله الصلاة والسلام إلا وبكى لما يستحل منه ومن حرمه ورجاله وأطفاله.
قيام أبي عبد الله الحسين (ع) يوم العاشر من محرم سنة ٦١ للهجرة كان واجبا في زمن كثرت فيه البدع والتجرؤ على العقائد وعلى المنصب الإلهي للولاية، لقد جلسوا على مقعد الخلافة واغتصبوا حق الأئمة فيه، فاحت من قصورهم رائحة الخمر والعربدة ، و عندما فاحت رائحة الدماء الزكية لأصحاب أهل البيت والموالين للأمام علي بن أبي طالب عليه السلام سمّوهم بالخوارج .
وصلت بهم الحال في كربلاء لرفع رأس الامام الحسين عليه السلام على الرمح بالتكبير والتهليل ، كانوا يتقرّبون إلى الله تعالى بذبحه وسبي عياله ويسحقون جسده الطاهر بحوافر الخيول بنداء" يا خيول الله اركبي".
امتازت دعاية الأمويين بالإعلام المضلّل والحرب النفسية والتسلّل الماكر إلى قلوب الناس وتغذيتهم بالسموم الفتّاكة ذات المنظر الخادع .
إن قرار الإمام الحسين عليه السلام بالخروج إلى كربلاء كان بهدف إصلاح المنظومة الفكرية المنحرفة وبناء مبادئ الإسلام على أسس سليمة.
في بلدي لبنان، قاسى اللبنانيون من آلام الحرب المستنزفة للشهداء والانتهاكات المتواصلة من هدم البيوت والمشاريع الإنمائية ومن قتل للأطفال والنساء والشيوخ .
في فلسطين المحتلّة والاعتداءات على غزّة، ومحاولة الصهاينة والأميركيين إبادة هذا الشعب بكل أنواع الفتك والإجرام .
منعوا عنهم الماء والغذاء والأدوية والطبابة ، حتى مات العديد منهم جوعا وعطشا وجراحًا، كل ذلك في صمت عربي مطبق كأن شيئا لم يكن .
صوت الثكالى واليتامى يقرح القلوب في زمن قلّ فيه الناصر والمبصر للحق والحقيقة .
والسؤال الذي يطرح هاهنا:
هل هذا يبيح لنا تشبيه الحدث الآني بحادثة كربلاء؟ أو تشبيه الثورة ضدّ الطغاة بالثورة الحسينية ؟
هذا ما أجاب عنه الإمام الحسن المجتبى(ع) قبل١٤٠٠عامًا ،عندما بكاه الإمام الحسين ساعة لفظه كبده من شدّة السم الذي دُسّ له في الطعام، حيث قال:
" لا يوم كيومك يا أبا عبد الله ".
في كتاب الأمالي للشيخ الصدوق ، عن الإمام الصادق ، عن الباقر ، عن السجاد عليهم السلام يؤكد لنا أن في كربلاء وقعت أعظم مصيبة في تاريخ الإسلام لما انتُهك فيها من حرمات اهتزّ لها الوجدان الإنساني و استفاق بدماء الإمام وأصحابه الضمير العالمي من سباته . هذا ما ترجم قول النبي صلوات الله عليه وعلى آله :"حسين مني وأنا من حسين، أحبّ الله من أحبّ حسينًا "رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد وغيرهم ..
حسين مني أي ابن ابنتي و بضعتي، أما أنا من حسين يدلّ على أن الإمام الحسين(ع) شريك جدّه في الدعوة وأن بثورة الحسين (ع) يستمرّ نهج الرسول (ص) الحقّ.
ويجدر بنا ذكر وفاء أصحابه وإخلاصهم حيث قال الإمام الحسين (ع) "فإني لا أعلم أصحابًا أوفى ولا خيرًا من أصحابي ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي فجزاكم الله عني خيرا ....."بحار الأنوار، العلامة المجلسي ،ج٤٤،ص٣٩٢.
يؤكّد الإمام على تميّز أصحابه عن غيرهم من أصحاب الأئمة وعلى اصطفائهم لهذه الثورة المخلّدة، وهذا ما أكّده الإمام الرضا (ع) بقوله :"يا بن شبيب إن كنت باكيا لشيء فابكِ الحسين ابن علي بن ابي طالب ع فإنه ذبح كما يذبح الكبش وقتل معهم من أهل بيته ثمانية عشر رجلًا ما لهم في الأرض شبيهون....."الأمالي للصدوق ج١ص١٩٢
فكلّ من اجتمع في كربلاء ليس له شبيه وكل مصيبة تهون لمصيبة كربلاء وكل ما لدينا هو من كربلاء، كل صبر هو امتداد من صبر زينب الحوراء التي تلقّت تلك المصائب والرزايا في يوم واحد في ساعة واحدة، بينما نحن تلقّينا الضربات والأوجاع على دفعات حتى استطعنا إكمال المسيرة وهون الله علينا ..
كل روح جهادية هي امتداد من بأس الإمام الحسين وأصحابه المجاهدين بين يديه. وكل درب شهادة على دربه وخطاه انطلق .
علّمنا الإمام (ع) كيف نكون مظلومين فننتصر بدمائنا وكيف نكون وحيدين غرباء لا ناصر لنا ولا معين، فنكمل المسير بقول علي الأكبر ع:" افلسنا على الحق إذا لا نبالي أوقعنا على الموت أم وقع الموت علينا "
نعم قيامنا في ٢٨ايلول سنة٢٠٢٤ميلاديا على طريق القدس كان نهجًا حسينيًا ضدّ طغاة عصرنا ولكن لو لم نقم بهذه الثورة ضدّ الصهاينة هل كان سيمحى دين رسول الله محمد (ص)؟ هل كان التشيّع ونهج ولاية أمير المؤمنين (ع) في خطر؟ الجواب: لا .
رزية الإمام الحسين (ع) جلّت وعظمت علينا وعلى جميع أهل الإسلام وجلّت وعظمت في السماوات على جميع اهل السماوات فلعن الله أمة أسست أساس الظلم والجور عليكم أهل البيت ولعن الله أمة دفعتكم عن مقامكم وأزالتكم عن مراتبكم التي رتبكم الله فيها .
ليس المقصود من مقارنة الأحداث المعاصرة بكربلاء أن نلغي تفرّد الطفّ، ولا أن نسوّي بين كربلاء والتاريخ، بل لنستنير بنورها، ونستمدّ منها وقود البصيرة والصمود.
ففي كربلاء تجلّت الحقيقة بأن دم المظلوم أبلغ من سيوف الظالم، وأن الصرخة الصادقة تبقى وإن طُمرت بالأرض.
نحن أبناء الحسين، ننهل من مدرسته في المواجهة والوفاء، ونسير على خطى زينب (س) في حمل الرسالة بعد الفاجعة.
سيظلّ سيّد الشهداء نبراسًا، وتبقى كربلاء موطن الولاء والبصيرة، وراية الثورة التي لا تسقط، ولو انطفأ كل شيء..
اضافةتعليق
التعليقات