قَرُبت ذكرى وفاة رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم)، وأمسكتُ قلمي مترددة من أين أبدأ: أي صفحة من حياته أفتح؟ وأي درس منها أروي؟ فإن حياته كلها كانت مدرسة مفتوحة، ينهل منها الكبير والصغير. لكنني، كوني مُدرسة، وجدت أن أقترب من جانب يلامس مهنتي ورسالة حياتي: جانب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المعلم، الرجل الذي لم يكتفِ بأن يبلّغ رسالة السماء، بل صنع أمة بالعلم، وأيقظ القلوب بالمعرفة، وربّى جيلاً حمل مشاعل النور إلى الدنيا كلها.
إن الحديث عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كمعلم ليس حديثًا عن مهنة، بل عن رسالة إلهية تجسدت في شخصيته، فحوّلت الأمّي إلى قارئ، والضعيف إلى قائد، والمجتمع المتناثر إلى أمة واحدة. لقد بدأ الوحي بكلمة «اقرأ»، لتكون أول رسالة من السماء إعلانًا أن الدين معرفة قبل أن يكون طقوسًا، وأن العلم هو القاعدة التي يقوم عليها الإيمان. وقد وصف القرآن مهمة النبي بقوله: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ سورة الجمعة، فجمع بين التربية والتعليم، بين تزكية النفوس وبناء العقول، واضعًا أسس مدرسة ربانية متكاملة.
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن خطيبًا يجلس على منبر يلقّن الناس كلمات، بل كان يعيش ما يعلّم. علّم الصدق فكان هو الصادق الأمين قبل البعثة، علّم الرحمة فكان يجلس مع الأيتام والمساكين ويشاركهم طعامهم، علّم التواضع فكان يأكل على الأرض ويقول: «أنا عبد آكل كما يأكل العبد». هذه التربية العملية صنعت أجيالًا راسخة، وأثبتت أن التعليم الحقيقي هو القدوة قبل الكلام.
ومن أروع ما نستحضره قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنما بُعثتُ معلّمًا»، إذ جعل من التعليم تعريفًا برسالته لا مجرد جانب ثانوي. حتى في لحظاته الأخيرة، وهو يودّع الدنيا، بقي معلّمًا، فأوصى بالصلاة وبالرحمة لما ملكت أيمان الأمة، وكأنه يريد أن يضع آخر درس في منهاج حياته.
إن مدرسة الرسول لم تنطفئ بوفاته، بل امتدت في عترته الطاهرة. فقد قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «أنا مدينة العلم وعلي بابها»، فأشار إلى أن ميراثه العلمي لن يُحمل إلا عبر باب الامام علي (عليه السلام). ومن هنا نفهم أن الإمامة ليست مجرد قيادة سياسية، بل استمرار للمدرسة النبوية في العلم والهداية. ومن شواهد ذلك ما جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله: «... فلم يعلم رسول الله صلى الله عليه وآله حرفاً إلا علّمه علياً عليه السلام ثم انتهى ذلك العلم إلينا...». إنها كلمات تكشف أن العلم الذي أودعه النبي في قلب وصيه هو الامتداد الطبيعي للرسالة التعليمية الكبرى.
ولعلنا اليوم، نحن المعلّمين، أحوج ما نكون إلى أن نستلهم من سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه المعاني. فالتعليم ليس وظيفة نؤديها ونغادر، بل هو رسالة نبني بها إنسانًا، نزرع في داخله القيم قبل أن نملأ عقله بالمعلومات. والمعلم الناجح هو الذي يصبر على طلابه، ويحتوي اندفاع الشباب بحكمة ورحمة، ويجعل من العلم وسيلة لتحرير العقل لا لتقييده.
إن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقدّم دروسًا عابرة، بل قدّم مشروعًا حضاريًا متكاملًا، أعاد صياغة الإنسان وصنع أمة من لا شيء. ومن هنا فإن ذكراه ليست مجرد وقفة للحزن على فراقه، بل دعوة لاستمرار مدرسته، كلٌّ من موقعه. فالمعلم، والأب، والأم، والخطيب، كلهم تلامذة في مدرسته العظمى، مدعوون إلى أن يحملوا نوره إلى من بعدهم.
واليوم، ونحن نقترب من ذكرى رحيله، نشعر أننا أمام محيط لا ينتهي من الدروس. كمعلمين، كآباء، كأمهات، كأمة، نحن مدعوون لنقتدي به: أن نحوّل حياتنا إلى مدرسة للخير، نصنع من كل موقف درسًا، ومن كل كلمة أثرًا. إنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن مجرد معلم، بل كان أعظم معلم. علّمنا أن الحرية تبدأ بالقلم، وأن التربية تبدأ بالرحمة، وأن التعليم ليس كلمات تُقال، بل حياة تُعاش. ورغم مرور القرون، ما زالت دروسه حيّة، تتنفس في كل قلب يتذكره، وفي كل قلم يكتب عنه، كما أفعل الآن، محاوِلةً أن أقطف من شجرة حياته المباركة ثمرة أضيء بها عقول صغاري وطلابي.
اضافةتعليق
التعليقات