مع إعلان نتائج الامتحانات النهائية للمرحلة الإعدادية، تعيش العديد من الأسر العراقية حالة من التوتر والقلق، بل ويعلو صوت التذمر في بعض البيوت، ليس بسبب الرسوب أو الفشل، بل لأن معدلات أبنائهم "لم تصل إلى درجة الطب".
هنا يبرز سؤال كبير يفرض نفسه: هل أصبحت كليات الطب المعيار الوحيد للنجاح؟
وهل ما زال المجتمع يحصر طموحات الطلاب في تخصص واحد، متجاهلاً تنوع القدرات وتعدد ميولهم؟
الطب حلم كثيرين .. لكنه ليس للجميع
يرى مختصون تربويون أن اختيار التخصص الجامعي لا يجب أن يُبنى فقط على المعدل، بل على أساس الرغبة والميول الفردية. إلا أن الثقافة المجتمعية ما تزال تؤمن بمعادلة واحدة: "المعدل العالي = كلية الطب"، وهو ما يضع كثيراً من الطلبة تحت ضغط نفسي قد يُفضي إلى نتائج سلبية.
يقول الدكتور ماجد الخياط، رئيس تحرير صحيفة "صباح كربلاء":
"السبب الرئيسِ وراء ضغط أولياء الأمور لاختيار تخصص الطب لأبنائهم هو ضمان التعيين والراتب والأجر العالي فضلاً عن المرتبة الاجتماعية التي ترى الطبيب أعلى رتبة فيها... أما تأثير ذلك على الطالب فهو أحياناً يكون إيجابياً وأخرى سلبياً... الإيجابي هو دفع الطالب لبذل قصارى جهده والمنافسة العلمية وعدم ضياع الوقت وبالتالي وضع نقطة وصول لهدف... أما السلبي وهو الأهم فهو الأثر النفسي الذي سيترتب على عزم تحقيق الطالب ذاك الهدف، فالبعض أولاً يحمل نفسه أكثر من طاقته وبالتالي يفشل، وثانياً الشعور بالفشل رغم أن الطالب تجده قد حقق كلية جيدة المستقبل إلا أنه تراهُ قد ضيع فرحته بالنجاح والتفوق على أقرانه الذين حققوا أدنى منه مستوى... والثالث وهو الأهم أنه قد يصل به الأمر إلى إيذاء نفسه من جهة... وأن يفقد الرغبة في حب العلم والعمل في الاختصاص الجديد له من جهة أخرى".
ضغوط اجتماعية لا تصنع النجاح
ليست كل شكاوى الأهل نابعة من حرص أكاديمي. بل في كثير من الأحيان، ترتبط بالتفاخر الاجتماعي أو الإحساس بتحقيق الذات عبر الأبناء. وهذا ما يفسر حالات الإحباط التي تصيب بعض الطلبة، لمجرد أنهم لم يدخلوا كلية "مرموقة" وفقًا للعرف المجتمعي.
تقول السيدة بيداء، وهي أم لطالبة حصلت على معدل 85% :
"أنا حزينة لأن ابنتي لم تدخل الطب، لكنني قررت أن أساندها في اختيارها لتخصص علوم الحاسوب. وجدت فيها شغفاً حقيقياً، وأظن أن النجاح لا يتوقف على الاسم الكبير للتخصص، بل على حب الإنسان لما يفعل."
أما التربوية والكاتبة فرح تركي، فتؤكد: "قبل أن أوجه رسالة، أحب أن أشير إلى أن ذلك ينبع من حب الأهل المبالغ لأبنائهم، لذلك هم يطمحون لهم الأفضل، ولكن السؤال هل التخصصات الطبية هي الأفضل وبماذا؟ أو العلوم التقنية والفنية؟ فلقد لاحظنا معاناة المجاميع أعلاه في (جائحة كورونا) ومعاناتهم تجاوزت المرض والعدوى إلى الوفاة أو نقل العدوى لأحبائهم وتوفوا بسببها".
وأوضحت: "إن الأسباب ترجع أن تكون نفسية ومنها طلب الأمان المادي، ولكن حسب تجربتي أن المادة مطلوبة مع الاعتدال، لأن هناك الكثير من الأمور الثانوية تندرج لحماية أبنائنا، فمثلاً أنا لا أستطيع مفارقة ابني البكر لساعات طويلة في المناوبة في المستشفى والعيادة فاقترحت عليه اختصاص يلبي حاجاته المادية ويوفر وقتا لراحته وللتواجد قربنا".
وأضافت: "إن هناك اختصاصات قد تحرمنا من التمتع بنعمة الله وهي البنون، وإن سبقها بالأهمية وهو المال".
دور المعلم .. أكثر من مجرد توجيه
يلعب المعلم دوراً محورياً في إعادة توجيه طموحات الطلاب نحو اختيارات واقعية تُراعي قدراتهم وشغفهم، بعيداً عن ضغط الأهل.
تقول التربوية فرح تركي:
"غالباً ما يكون صوت المعلم مسموعاً أكثر من الأهل. أحاول دائماً تقديم قصص نجاح حقيقية من المجتمع، وأستخدم الفيديوهات التعليمية لتأكيد فكرة أن النجاح لا يُختصر في الطب أو الهندسة فقط".
نحو ثقافة تعليمية أكثر نضجاً
في ظل تغيّر سوق العمل وتطور المهارات المطلوبة، بات من الضروري إعادة النظر في النظرة التقليدية تجاه التخصصات. فاليوم، لا تكفي الشهادات لوحدها لضمان المستقبل، بل أصبح الابتكار والمهارات العملية عناصر حاسمة.
تقول الإعلامية ميس الزبيدي، موظفة في القطاع الصحي: "لا أؤمن بأن المعدل وحده يجب أن يحدد مستقبل الطالب. هناك من يملك قدرات عالية لا تظهر في الامتحانات بسبب التوتر أو الظروف النفسية. الأهم أن نراعي مهارات الطالب، وندعمه ليختار ما يحب، لا ما يريده المجتمع منه".
وتضيف:
الذكاء الحقيقي لا يُقاس بالأرقام، بل بالقدرة على النجاح في المجال الذي يُحبّه الطالب. دعم الأهل أهم من تفوقه العددي. فالمعدل ليس كل شيء".
النجاح أكبر من التخصص
لقد آن الأوان أن نراجع مفاهيمنا حول النجاح الأكاديمي. ليس الطبيب فقط هو من ينجح، ولا كل من لم يدخل الطب قد فشل.
نجاح الأبناء لا يجب أن يكون مرآة لطموحات الأهل، بل ثمرة دعمهم واحترام خياراتهم.
فلنترك لأبنائنا حقّ الحلم والاختيار، ولنجعل شعارنا: دع ابنك يقرر.. وكن له سنداً لا قاضياً.
اضافةتعليق
التعليقات