في الأزقة العتيقة لمدينة كربلاء، حيث تفوح رائحة التربة الطاهرة وتمتزج الأرواح بنداء الحسين، تُولد الحِرَفُ من رحم الحاجة وتكبر في كنف البركة. ومن بين هذه الحرف، تتلألأ مهنة “الحَجّار” كأثر قديم ما زال ينبض بالحياة، يُلامس فيه الإنسان جوهر الحجر، لا كجماد، بل ككائن له روح، له أسرار، وله بركات.
الحَجّارة ليست مهنة عادية، بل هي فنٌ يتداخل فيه الإيمان بالمهارة، والتاريخ بالحس الروحي، وهي من أقدم المهن التي عرفها المسلمون، وأوصى بها نبيّ الإسلام محمد (صلى الله عليه وآله) في أكثر من موضع. فالخاتم الذي يُلبَس ليس زينة فقط، بل هو حارس صغير لمعاني كبرى، وهوية خفية تتجلّى في حجر كريم من عقيق أو فيروز أو ياقوت.
في كربلاء، لم تكن محلات بيع الأحجار الكريمة كثيرة كما نراها اليوم. كان السوق الحقيقي لهذه الحِرفة يقام في المقاهي، حيث يجتمع “الحَجّارة” الكبار، يحملون معهم ألوانًا من العقيق والفيروز والتوباز، ويعرضونها بصدق لا يموّه، وبكلمة تسبق الحلف، لأنهم يدركون أن المهنة التي ترتبط بنفوس الناس، يجب أن تقوم على المصداقية والنية الحسنة.
أسماء لامعة حفرت أثرها في ذاكرة الكربلائيين مثل الحاج موسى جعفر المعمار، والسيد مهدي مصباح (رحمه الله)، والمرحوم سيد أمين المؤذن، وهادي عابدين. كانوا لا ينظرون للحجر كسلعة، بل كأمانة. وكانوا يختلفون في الحكم عليه، فلكل منهم “بصيرة” خاصة، ولكل منهم “عين” لا تخطئ معدنه، لأن هذه المهنة لا تخضع فقط لمعايير السوق، بل لحدسٍ يتعلّم من الروح، ويستأنس بالتجربة الطويلة.
واليوم، تنتشر محال الأحجار في كربلاء من شارع الجمهورية إلى باب السدرة، تعجّ بالألوان والتصاميم، لكن أعداد المتخصصين الحقيقيين قلّت، واندسّ بين الصادقين من لا يعرف الفرق بين الزجاج والعقيق. وأصبحت التجارة تغلب على النية، والربح يسبق الثواب.
من أندر الأحجار التي كانت تُميّز كربلاء هو العقيق اليماني، الذي يُقال إنه وُلد في أول جبل أسلم لله في اليمن، وهو حجر مبارك أوصى به الرسول (صلى الله عليه وآله)، وأكدت الروايات الشريفة فضله. له ألوان شتّى، لكن جوهره واحد: روحانية عميقة تلامس القلب.
مَن لا يعرف قيمة هذه الأحجار لا يقتنيها، ومَن لا يفقه لغتها لا يتداولها، لأن الحجر الكريم ليس مجرد زينة، بل “أثر”، يحمل أثر الأنبياء والأولياء، ويسكن في قلب من يعرف أسراره.
كربلاء، مدينة لا تزال تتكلّم بالعقيق، ويُحتفى فيها بالحَجّار، ذاك الذي يقرأ الحجر كما يُقرأ كتاب، ويمنحه شهادة أصالة لا تُكتَب بالحبر، بل بالتقوى والخبرة.
اضافةتعليق
التعليقات