ما إن هدأت العيون، ونامت الأبصار، وسكنت المدينة تحت جنح ظلامٍ كان وكأنه يحمل ثِقَلَ العالم على كاهله، بدأ موكبُ الدموع يسير على نعشٍ تُقدّمه خيوطُ تلك الليلة الحزينة التي لا تُنسى، ليلةٌ همستْ فيها فاطمةُ لعليٍّ همساتٍ كانت آخرَ ما تودّع به الدنيا:
"أوصيكَ يا ابنَ عمّ أن تتخذ لي نعشاً، فقد رأيتُ الملائكةَ صوّروا صورته."
هي لحظاتٌ تقابلتْ فيها كلماتُ فاطمَ مودّعةً وجهَ عليٍّ (عليه السلام) المتألم، في ذلك البيت الذي خبا نوره برحيل رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وفي تلك الحُجرة التي ما زالت تتنفس ذكراه، استندت الزهراء إلى قلب زوجها، ذلك القلب الذي كان ملاذ النبيّ ومأوى الإيمان. نظرت إليه بعينين مثقلتين بألم الدنيا، وحنين الآخرة، عينين رأتا جبريلَ يُخاطب أباها، ورأتا أمةً تتصارع بعد نبيّها، وأكملتْ بصوتٍ خافتٍ كحفيف أجنحة الملائكة، يقطر شوقاً للقاء الحبيب الأعظم، وألقت في قلبه وصيّتَها:
"يا علي... أوصيك أن لا يشهد أحدٌ جنازتي من هؤلاء الذين ظلموني وأخذوا حقي، فإنهم أعدائي وأعداء رسول الله صلى الله عليه وآله، وأن لا يُصلي عليّ أحدٌ منهم ولا من أتباعهم، وادفني في الليل إذا هدأت العيون ونامت الأبصار." (1)
كانت الكلمات تسقط من شفتيها كاللآلئ المكلومة، كل كلمة جرحٌ جديدٌ في قلب عليٍّ، وذكرى مؤلمةٌ بفراقٍ سيأتي لا محالة، هي التي عاشت في كنف أعظم خلق الله، تريد أن تموت كما عاشت: بعزةٍ وكرامةٍ وطهارة. لا تريد لعينٍ غريبةٍ أن ترى ما أراد الله أن يستره، لذلك ألقت في قلبه همَّها الأخير: أولادها اليُتمى؛ الحسن، الحسين، زينب، وأم كلثوم.
ثم سكتت...
وسمع عليٌّ صوتَ الصمتِ الذي هو أقسى من كل العواصف. شعر بيدها تضع في كفّه أمانتها الأخيرة، وأمانةَ رسول الله من بعدها، ثم أغمضت عينيها لتستعدَّ للرحلة الأطول... رحلة اللحاق بأبيها.
ثم سار النعش في ظلمة الليل، يحمله عليٌّ، وكأن المدينة كلَّها قد حبست أنفاسها حُزناً؛ فهي لم تكن جنازةً عادية، بل كانت قطعةً من القلب تُسحب من صدور المؤمنين. كانت بضعة النبي تُعاد إليه في جوف الليل، ابنةُ سيّد المرسلين تُوارى في الظلام كما أوصت؛ حفاظاً على سرّ جسدها الطاهر، وكأن الدنيا بأسرها لم تعد تستحق أن تشهد جثمان من طهّرها الله تطهيراً.
انتهى الموكب، ووُري الجثمان الطاهر في ثرى البقيع، لكن تلك الهمسات، والوصيّة، وذلك الحزن الذي اختلط بتراب القبر، بقي ينزف في قلب عليٍّ إلى الأبد، بكلماتٍ نُقلت عنه عليه السلام: (2)
"لكل اجتماعٍ من خليلين فُرقة
وكلُّ الذي دون الفِراقِ قليلُ
وإن افتقادي فاطماً بعد أحمدٍ
دليلٌ على أن لا يدوم خليلُ"
لقد ذهب الجسد الطاهر، لكن جُرح الفِراق بقي نازفاً في قلوب المحبّين.
كلُّ الذي دون الفِراقِ قليل
هو ذا كان صوت الإمام عليٍّ عليه السلام، يبوح بأعظم مصيبةٍ بعد رسول الله صلى الله عليه وآله؛ فِراق زوجته ورفيقة دربه، بضعةِ رسول الله، السيدة فاطمة الزهراء. إنه يُذكّرنا بحقيقةٍ قاسية:
"لكل اجتماعٍ من خليلين فرقة"
فما من لقاءٍ إلا وتلوح في أفقه غيمةُ فِراق. هذه هي سُنّة الحياة الدنيا. ولكن الفرقة هنا ليست ككلِّ فِراق، والافتقاد ليس كأيّ افتقاد؛ إنه افتقاد "فاطمة بعد أحمد". إنها ليست مجرد زوجة تفارق زوجاً، بل هي ابنة النبي الذي اختاره الله لحمل آخر الرسالات، تُفارق زوجاً هو باب مدينة علم أبيها. إنها القطعة من قلب رسول الله، فمن ذا الذي يملأ ذلك الفراغ الهائل الذي تركه رحيلها؟ ومن ذا الذي يُعوّض عن تلك الروح الطاهرة التي كانت تُذكّر الجميع برسول الله: في مشيتها، وكلامها، وحتى في ابتسامتها؟
وها هو الإمام يضع الميزان للحياة كلها:
كلُّ ما عدا الفِراق من منغصات الدنيا صغير.
كلُّ ألم، كلُّ هم، كلُّ تعب، كلُّ شوق، يمكن احتماله ما دام الأمل في اللقاء قائماً.
لكن عندما يصبح الفِراق هو الحقيقة الوحيدة،عندما تُغلق أبواب اللقاء في هذه الدنيا،
يصبح كل شيءٍ آخر لا وزن له.
وهذا هو الفِراق الذي لا يُعوض، والحزن الذي لا يُحتمل، والفقد الذي يغير معنى الحياة نفسها.
إنها الحقيقة التي توقظ القلب من غفلته، إنها التذكرة الموجعة بأن الدنيا دارُ زوال، وأن كل عزيزٍ سيفارق، وأن كل حبيبٍ سيرحل، لا يبقى إلا وجه الله تعالى.
فلقد كان وجود فاطمة في حياة الإمام عليٍّ عليه السلام هو أعظمَ نعيمِ الدنيا الذي جُبِر به مصاب فِراق أبيها. فلما رحلت، ذهبت بذلك الجُبران، وتركت القلب يتذكّر أن النعيم الحقيقي، والخليل الذي لا يُفارق، هو في جوار الرحمن.
فيا من تمرُّ على قلبك سحابةُ فِراق،
يا من تئنّ من ألمِ فقدانِ عزيز،
تأملْ في من فقد القمرين: النبي محمداً، وفاطمةَ الزهراء،
تأمل في هذه الكلمات التي تنبع من أعماق روحٍ مجروحة،
لتُدرك أن فِراق الأحبة جزءٌ من مسيرة الإيمان.
إنه الامتحان الذي يُذكّرنا بأننا في دارِ ابتلاء،
وأن دار القرار، واللقاء الذي لا فِراق بعده، هو هناك؛
في جنةٍ عرضها السماوات والأرض.
فلقد رحل جسدُ فاطمة الزهراء، لكن دروسَها باقية، دروسُ الوفاء، والصبر، والإيمان الراسخ بأن الفِراق ليس نهاية المطاف، بل هو محطةٌ مؤلمةٌ في رحلةٍ طويلة، ينتهي فيها إلى رحمة الله ورضوانه، حيث لا فِراق، ولا حزن.
فالسلام عليكِ يا بضعةَ رسول الله، سلامٌ يخرج من أعماقِ قلب مؤمنةٍ تشتاق إلى طُهرك، وإلى ذلك النور الذي جعلكِ سيدة نساء العالمين. سلامٌ عليكِ في الليلِ الذي شهد نعشكِ المقدس، وفي الأرضِ التي ضمّت جسدكِ الطاهر.
سلامٌ عليكِ أيها الصبرُ الجميل على فِراقِ أبيك، وأيتها الحزنُ الذي اختبأ في جنح الظلام.
سلامٌ على تلك الروح التي فارقتِ الدنيا وهي تحمل في قلبها حباً لله ولرسوله، ووفاءً لا ينقطع. لقد علمتِنا يا سيدتي أن الفِراق ألمٌ، ولكن الإيمان باللقاء عند الله هو البَلسَم.
فاللهم صلِّ على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها، وألحقنا بهم في مستقرِّ رحمتك، حيث لا فِراق ولا حزن، في جنةِ الخُلد التي وعدتَ عبادك الصالحين.
اضافةتعليق
التعليقات