حينما تُروى سيرة الإمام الحسن (عليه السلام)، لا يُروى مجرد تاريخ، بل يُستعاد مجدٌ منير من نور الرسالة، يُستعاد وجهُ الإسلام المشرق، الذي تجسّد في رجلٍ كان امتدادًا حيًّا لنبوّة جدّه المصطفى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومرآةً صافيةً تعكس معاني الخُلق، والقيادة، والبصيرة.
لقد أسّس الإمام الحسن (عليه السلام) مدرسته الكبرى في يثرب، لا كمجرد مركز علمي، بل كمنارة حضارية تنهض بالأمة من غفلتها، وتوقظ القلوب التي ران عليها الصمت، وتغرس في العقول شجرة الفهم والوعي والبصيرة. وقد انتمى إلى هذه المدرسة علماء ومحدّثون، فكانوا الجسر الذي عبرت عليه مفاهيم الرسالة إلى الأجيال. كان الحسن (عليه السلام) لا يعلّم حديثًا فحسب، بل يبني عقولًا، ويهذّب نفوسًا، ويزرع في تلامذته روح الإصلاح واليقظة.
ومع هذا البذل العلمي، كان الإمام شعلة من أخلاق، يفيض نورها حتى على من خاصموه. فما أجمل مشهده وهو يزور الوليد بن عقبة في مرضه، رغم ما حمله الوليد من عداء لبني هاشم! وحين واجهه الوليد بكلمات الجفاء، أجابه الإمام بالصمت النبيل، وتسامى عنه كما تتسامى القمم عن السفوح.
كان الإمام (عليه السلام) قلبًا نابضًا برحمة السماء، عطفه على الفقراء ليس موسميًّا، بل كان نهرًا جاريًا لا ينقطع، وكان يرى في الإنفاق بذلًا لله لا تفضّلًا على أحد. رجلٌ سأله حاجةً فكتبها في رقعة، فإذا بالإمام يضاعف له ما طلب، وحين أبدى الحاضرون دهشتهم قال كلماته الخالدة: "أما علمت أنّ المعروف ما كان ابتداءً من غير مسألة؟".
ومن مواقفه الشاهدة على نُبل معدنه وعلو منزلته، أنّه كان ملاذ المظلومين من بطش الطغاة، كقصته مع سعيد بن أبي سرح، الذي استجار به من ظلم زياد، فلم يرضَ الإمام أن تبقى عائلة هذا الموالي حبيسة الانتقام، فكتب إلى الظالم يأمره بردّ الدار والمال والحرية لأهلها، في مشهد يكشف عن رسالته الاجتماعية الحامية للعدالة، والراعية للكرامة.
ولم يكن الإمام (عليه السلام) بمعزل عن مجريات الحكم، بل كان متابعًا بصيرًا، يراقب الحكام، ويوجّههم، وينهى عن المنكر، ويقيم الحجة على الظالمين. فقد كان صوت الحق في زمن التواء، وضمير الأمة في عصرٍ أراد طمس الحقائق. ومن عمق بصيرته، أنه لم يُخدع بزيف محاولات الأمويين استمالته، فرفض مصاهرتهم، وكشف نواياهم، وكان لسانًا صريحًا في مناظراته، لا يخشى في الله لومة لائم.
إنّ الإمام الحسن (عليه السلام) لم يكن رجل هدنة كما أراد أن يصوره البعض، بل كان رجل وعيٍ واستراتيجية، صالح من موقع القوّة، وأبقى للمعارضة جذوتها، وأدار مشروعًا إصلاحيًّا من نوع آخر، عماده الفكر والأخلاق والعمل التنظيمي.
لقد انطفأ الجسد الشريف، لكن نوره ما زال يتوهّج في مسيرة العدل، ويضيء لنا معالم الفداء والكرامة، ويعلّمنا أن القيادة ليست ضوضاء السيوف، بل هدوء الحكمة، ونفاذ البصيرة، وبذل النفس في سبيل الله والناس.
اضافةتعليق
التعليقات