لطالما طغت في الأوساط الثقافية والدينية نبرة تحذيرية تجاه وسائل التواصل الاجتماعي، وارتفعت أصوات ناقدة للتقنية الحديثة بوصفها أداة تسطيح فكري، وعامل تفكيك مجتمعي، ووسيلة لإلهاء الأفراد عن قضاياهم المصيرية.
وفي ظل هذا السجال، غالبًا ما يغيب عن النظر الجانب الآخر من المشهد، حيث تبرز التقنية كرافعة فكرية وروحية متى ما وُظفت في المسار الصحيح. ومن هنا، يطلّ علينا شهر محرم الحرام، حاملًا في طيّاته صورة ناصعة عن قدرة الثورة الحسينية على مواكبة العصر، وكيف يمكن للتكنولوجيا أن تكون جسرًا يُوصل القيم الخالدة لا حاجزًا يعزلها عن واقعنا المعاصر.
لا شك أن التقنية قد غيّرت مشهد إحياء عاشوراء، بل أعادت تشكيله بصورة غير مسبوقة. فبعد أن كانت المجالس الحسينية محصورة في نطاق جغرافي ضيق، أصبحت اليوم تُنقل مباشرة إلى كل بقعة في العالم، عبر منصات البث الحي وصفحات التواصل الاجتماعي. هذا التحوّل منح ملايين من المتابعين فرصة الحضور الروحي في المجالس، رغم بعدهم الجسدي، وساهم في إحياء الذكرى الحسينية في نفوس لم تطأ مجالس العزاء التقليدية يومًا.
لقد ساوت التقنية بين القريب والبعيد، وجعلت من حب الامام الحسين (عليه السلام) رابطًا عالميًا يتجاوز الحدود والثقافات.
إضافة إلى ذلك، وفرت وسائل التواصل الاجتماعي فضاءً رحبًا لطرح الفكر الحسيني بصيغ متعددة، تتماشى مع طبيعة المتلقي الحديث. فالمقاطع القصيرة التي تُلخص خطبة أو تلقي شعراً مؤثرًا، والمنشورات التوعوية التي تربط بين واقعة كربلاء وقيم العدالة والحرية، صارت تنتشر بسرعة مذهلة، وتؤثر في شرائح متنوعة من المجتمع، خصوصًا الشباب. إننا نشهد اليوم ولادة خطاب حسيني رقمي، يتحدث بلغة العصر، ويستثمر أدواته، دون أن يفرّط بالمضمون الأصيل.
وما يثير الإعجاب أكثر هو التحول النوعي في البرامج التثقيفية المخصصة للأطفال والناشئة، حيث ظهرت تطبيقات تعليمية تفاعلية تعرفهم على السيدة زينب (عليها السلام) والإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه بطريقة محببة، مستثمرة الرسوم المتحركة، والمحتوى القصصي، بالإضافة إلى بعض المشاهد التمثيلية التي تسهم في تقريب المفاهيم والمواقف التاريخية إلى أذهانهم بلغة معاصرة وأسلوب جذاب، مما يعزز الارتباط العاطفي والمعرفي لدى الأجيال الجديدة بهذه الشخصيات العظيمة وقيمها النبيلة.
وهكذا، لم تعد عاشوراء حكرًا على الكبار في مجالس المساجد، بل صارت حكاية تنمو مع الطفل، وتبني وجدانه، وتزرع فيه القيم الكبرى بلغة يفهمها ويحبها.
ولا يمكن إغفال ما أحدثته التقنية في تنظيم الشعائر على الأرض. فبفضل التطبيقات الذكية، صار بالإمكان تنظيم مواكب الخدمة، وإدارة الموارد، ومتابعة أماكن الزحام، وتوفير الخرائط الإرشادية للزائرين. وهذا ما يُظهر الوجه الحضاري للشعائر الحسينية، حيث تتلاقى الروحانية مع النظام، والعاطفة مع الدقة، والخدمة مع الابتكار.
لكن، وإن كنا نُشيد بهذه الطفرة الرقمية، لا يمكن أن نغفل بعض الملاحظات الجديرة بالانتباه. فكما أن هناك وجهًا مشرقًا، هناك أيضًا سلبيات دخيلة بدأت تتسلل إلى مضمون الشعائر من بوابة التقنية. من ذلك، التركيز المفرط أحيانًا على الشكل دون المضمون، والسعي إلى التفاعل الرقمي على حساب التفاعل المعنوي. كما أن بعض المحتويات قد تفرّغ القضية الحسينية من عمقها، وتحوّلها إلى لحظات بكاء قصيرة أو منشورات سطحية لا تحمل سوى عناوين مؤثرة بلا محتوى حقيقي.
فضلًا عن ذلك، هناك من يستغل موسم محرم للظهور الإعلامي، ويحوّل ذكرى كربلاء إلى مناسبة استعراضية رقمية، تغيب فيها روح التأمل والدرس، وتحضر بدلًا عنها صور التجمهر والتفاخر بعدد المشاهدات. وهذه الظواهر، تستحق وقفة مسؤولة، لتُعاد البوصلة نحو المعنى الأسمى لهذه الشعائر: إحياء القيم لا تضخيم الذات.
ورغم هذه التحديات، لا غبار على أن هناك واجهة أخرى جميلة، تمثل وعيًا جديدًا بدأ يتبلور في أوساط الشباب والمثقفين. وعيٌ يدرك أن سيد الشهداء (عليه السلام) ليس فقط قضية عاطفية تُستذكر، بل مشروع إصلاحي يُفعل، وأن كربلاء ليست مجرد ذكرى، بل رسالة مفتوحة للزمن، تقرأها الأجيال كلٌ بلغتها، وتستلهم منها قيمًا تتجدد كل عام.
في ضوء ذلك، يمكن القول إن التقنية لم تكن يومًا عدوًا للروح، بل هي وسيلة من وسائلها، متى ما حُسن استخدامها، وتوفّر لها العقل الواعي والنية الصادقة. وإن محرم اليوم، كما عاشوراء الأمس، يثبت لنا أن الرسالة النبيلة لا تخبو، بل تزداد تألقًا كلما ارتقت الوسائل، وتعاظم الإيمان بها.
وهكذا، نعيد اكتشاف عاشوراء من جديد، لا كذكرى تُحزننا، بل كنبراس يهدينا، وسراج ينير لنا الطريق في دروب الحياة، مهما تعقّدت.
اضافةتعليق
التعليقات