من يراع قوة الذات أن تنطق بالكرم وأن تستنتج معالم الحُسن جمال الأسلوب ووفرة الاخلاق من آفاق أفرادها وعمالقة السخاء .
الكريم، ذلك الإنسان الذي يكرم غيره قبل نفسه، يسارع في الخيرات ليجلي صفحته من الأوهام ويطريها من ثواب أفعاله ويهدي بعلمه أفواج من الانس، ليفتح للخليقة صفحة مبادرات من الإحسان والعطاءات الغائرة في اللطف حتى يفيض على الواقع موعدا خلاّقا لرقيه عنان السماء مع وابل من العواطف النقية والتوفيقات، بعيدا كل البعد عن البخل والطمع والحرص .
يذكر ميزان الحكمة: 6/ 290،،، وقد اختصر الامام تعريفه، وقد سئل عنه فقال:
(البُخلُ أَنْ يَرَى الرَّجُلُ مَا أَنْفَقَهُ تَلَفاً، وَ مَا أَمْسَكَهُ شَرَفاً)
اعتاد الخلق الانسياق للقدوة واتباع خطواته لترتيب كل فارقة تحتاج إلى تقنية وضابطة في مجمل الحياة، والأعظم في نظر السلوك والتصرف ومضان التطبيق للأخلاق الطيبة في المجتمع المتلقي عمليا وهذا ليس بسيطا أبدا في أن تجتمع قوى المكارم في شخص مكرّم الا من كان مختارا من الله عز وجل ممن هو أعظم وأعظم من في الوجود كالامام الحسن كريم آل البيت (عليه السلام) الجامع لمكامن النور، الحافظ لسر الله ، واسمه الاعظم ..
في الامام الحسن ، كرم يضاهي الوجود ، فلا يتقيد كرمه في أفذاذ من يطلبه أو يلتمس منه الحاجة بل يتعدى كرمه لطفه وأسلوبه وفكره وعلمه ومنطقه مع نفسه ورعيته و حتى مع أعداءه .. فالامام المجتبى حضارة المكارم وسط وحشه الكلمة وفظاظه الخُلق من أعداء المذهب .
وينقل في نزهة الناظر و تنبيه الخاطر…
وَقَدْ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ فُلَاناً يَقَعُ فِيكَ. فَقَالَ (عليه السَّلَام):
((أَبْقَيْتَنِي فِي تَعَبٍ، أُرِيدُ الْآنَ أَنْ أَسْتَغْفِرَ اللَّهَ لِي وَ لَهُ)))، فكان منه العفو سجية، ثم لم يكتف بالعفو عن المذبب، بل بالدّعاء له بالمغفرة عن ذنبه الذي أذنبه.
يلزم علينا جميعا ونحن في شهر رمضان أن نلجأ إلى باب كرم الحسن المجتبى ، ليرفع لنا حاجاتنا عند الله لغفران خطايانا فلم يكن اعتباطا ابدا في أن يكون مولد الامام الحسن في هذا الشهر المبارك فهو البركة وحكمة التكوين والشفاعة به لأنه الكريم عند الله .
يعد الكرم بابا واسع المضامين من الاخلاق ، حتى عد من افضل المحاسن ومن فضائل اخلاق الانبياء لأن الأفضلية تحتم الحصانة من مزايا الخبث وضعف الذات ومن الأعداء والأمان من مكائدهم .. الكرم حربا ضارمة مع النفس وعدوها الشيطان الرجيم …
الكرم مع الله عز وجل
لقُب الامام المجتبى بكريم آل البيت وذلك على حسن نواياه ورقيها ، فقد اجتمع الكرم كله في شخصه الشريف المقدس ، حتى تشرف الكرم ونال حظوة الاقتران بكرمه واسمه المبارك (سلام الله عليه) ، فأسس بيتا اسمه السخاء ، ورفع سقف الاحسان أبان تعامله وكرمه المبارك فأشير إليه بالبنان، وتجملت حروف الشريعة من مواقفه الكريمة المباركة وتسمّتْ بصفاته الجليلة الكريمه فالتحفت أقلام علمه سخاءٍ وكرما للبشرية جمعاء ، وقد شرع كرمه (عليه السلام) مضامين تعبدية مختلفة الاسوار تغور النفس وتغسلها من حقن المس الباطني والظاهري واعطاها جرعة دواء فأكرمها بطيف السخاء وحببها بالكرم والتفاني بالعطاء.
فالكريم يشعر باللذة في العطاء، كاللذه في العبادة ، والنوايا، وأداء الأمانة ، والحظوة بلقب السخيّ دون تردد ، أن يتجلد المعطي من جشعه ومن إشراكه في النوايا ، أن يشعر بخجله وتقصير اليد وماتصنع ، أن تعلن عن قصورها وهي في أقصى حدود العطاء ، وتترك التباهي في ذلك لأن الاشهار بها كمن دفن احسانه في التراب وثَبّت اسمه في لوحة النسيان ، لأن التمني يمحق عمل الخير …
وقد روي في بحار الأنوار عن الإمام الحسن (عليه السَّلَام) قوله: (مَنْ عَدَّدَ نِعَمَهُ مَحَقَ كَرَمَهُ).
لأن الكرم مع الله له كرامات ومكرمات ومقامات لايحوزها الا من تليق به وسط ضجيج الطامعين ، والبخلاء ، وشدة البلاء .. ربما يمنع الجوع أو المرض أو قلة الحيلة وربما الفقر الفكري والذهني وحتى بساطة التصرف من السخاء والعطاء والنوايا السليمة وذلك لضعف أصاب فهمه وضرب أمات وعيه ، وخطف أكل نضجه حتى يمنعه من الارتياد إلى قاعة الأولياء واستيعاب الكتاب وادراك الحياة ..
فلا يفهم فيهيم طرفه ويفقد قدراته في الحفاظ على نواياه مع الله .
الكرم الحضاري
الكرم يعني الكرامة ، هي حبس الوجع وقلة الحيلة ، الكرم مساحة من العزم والعزة ، هو ضمان حرية أمة الشريعة والتزام قانون التسامح ، هي متعة التضامن والتكافل الاجتماعي ووحدة التطبيق.
الحضارة كرمها يتوقف على عظمة قائدها وجمال أخلاقه وشمولية أفكاره وكمالية خطواته ، قائد حكيم ومنطق سليم ، ورئيس كريم ، وجمهور فهيم تَخَرّج وتسلح بذائقة الثبات والطاعة لقائده وإمامه .
وتقمصها الإنسانية وأداء فرضها في التعامل والعطاء ، فمن الكرم المساواة وتعميم الخيرات ، وتنسيق مشاريع الخير وغيرها من المحافل التي تخدم أفراد المجتمع وعلى مجال أوسع وقد يشمل التنسيق كل طبقات المجتمع وكيفية التعامل مع الكفاءة من ضياع حقوقها ، كل ذلك ضمن نطاق كرم القدوة وسلاسة تصرفها ، وعمق تفكيرها في تفادي الشدائد وكيفية امتصاص النقمات ، للحد من وتيرة الفوضى وتهدئة الأطراف.
لأن السخاء يؤسس وطنا ، ويكبح عدوا ، وينظم عسكرا ، ويؤدب شعبا ، ويرزق ثروة ، ويفكك عبوات التدهور والانزلاق ، ويبني جيلا على الأخلاق، فلا عدلا دون سخاء ، ولا نظام دون هضم المقدمات من الارزاق، فهو من مقومات الدين .
وقد نقل في جامع الأخبار، محمد الشعيري: 123
من أقٌواله (عليه السَّلَام): (إِنَّ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِ قُوَّةً فِي دِينٍ، وَ كَرَماً فِي لِينٍ، وَ حَزْماً فِي عِلْمٍ، وَ عِلْماً فِي حِلْمٍ، وَ تَوْسِعَةً فِي نَفَقَةٍ، وَ قَصْداً فِي عِبَادَةٍ...).
الكرم الثقافي الأخلاقي
إن أفراد البيت الثقافي مرهون خلاصه بما يستقطب ويستقبل من ثروات التراث سيما إذا كان من قطب الولاية وحديث الدراية بيت أسس على التقوى فيه عنق العرش مسجدا ثريا بالمزايا والعلم والنور ..
لأن الثقافة الكريمة تلك التي لايوازيها أي سقف فكري مجردا من الخُلق الطيب ، بل يتلاشى زيفه بمرور الأجيال فلايبقى منه إلا قصته وحرفه الفارغ من معجمه ..
لذا فالثقافة الكريمة تعطي من ذخيرتها الإيمانية لتسلح به عقلية الحاضر بسلاح الالتزام والطاعة ومعرفة شخوص الغيب وترك التقصير لأهل الذلة والمسكنة وهذا ما فعله المولى الحسن (سلام الله عليه) ، وقد واكب لطفه بكرمه اللامتناهي لأمة جده محمد ( صلى الله عليه وآله) واعطى الكثير وأكرم الضعيف بعلمه ورفع منسوب الوعي بأخلاقه الكريمة (سلام الله عليه)، والتي تركت انطباعا ثريا عابقا باللطف على من عاشه ومن تابعه الى وقتنا هذا ، وما كانت فطنته وتعامله مع أعداءه الا وليد كرم أخلاقه للحد من مكائدهم و لتشتيت وفد المنافقين.
وله في ذلك أقوال وحكم كثيرة نأخذ بعضًا منها، قوله (عليه السَّلَام): (أما الكرم فالتبرع بالمعروف والاعطاء قبل السؤال والإطعام في المحل)، وروي (التَّبَرُّعُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالْإِعْطَاءُ قَبْلَ السُّؤَالِ، مِنْ أَكْبَرِ السُّؤْدَدِ)، { تاريخ دمشق/ تنبيه الخواطر}.
الكرم و السخاء يرمم الثقافة من حاشية التخلف ، ويؤسس كتابا من المنظومات والقوانين وفق ما رسمته أحاديث العترة وأقوال الشريعة ، ويصعد من وتيرة النضج وبحرا من العلوم من منطق ولاية أهل البيت ووفق ما قسمنا وشرحنا نجد أنها تصب في مصب الصبر وضبط النفس والذات من ضغوطات سواء اجتماعية كانت أو تربوية أو أخلاقية أو على مستوى فيضان السياسة وتخبطاتها ، فلمن يريد أن يحذو حذوهم عليه أن يتعامل بكرم الأسلوب والفكرة ومجردا من العقلية المادية ، لتستميت روحه سخاوة في طريق التوفيق، الكرم يعلم الإنسان معنى التنازل والايثار وترك الآثار تأخذ جريانها في تحقيق المعجزات.
وقد نقل في أعيان الشيعة عنه عليه السلام :
وقد قال (عليه السَّلَام) عنه: (الْمَعْرُوفُ مَا لَمْ يَتَقَدَّمْهُ مَطْلٌ، وَ لَمْ يَتْبَعْهُ مَنٌ).
لأن الكرم إذا لبس ثوب السخاء أضحى عروس الاخلاق ، واذا تضمنت أبعاد حياته حضارة الأمة والفرد توج بتاج القدرة والفطنة وكان بارعا في حكمته وحكمه ، واذا سجدت مكامن سخاءه وكرمه أقصى مراتب العطاء والعبادة فقد حاز على رضا الرب عز وجل ، فلا يجود الكرم ، الا من باب كريم آل البيت ، أبا محمد الحسن المجتبى (عليه السلام ).
اضافةتعليق
التعليقات