"الأنس" يعني: العلاقة الوثيقة، الألفة، الاطمئنان، واستبشار القلب. يُقال: "أنِسَ به"؛ أي سكن إليه، وذهبت به وحشته، ألِفه وارتاح إليه، فرح وسعد به.
والإنسان بطبعه يحتاج إلى من يأنس به، وتراه دائمًا يبحث عن أنيس. وقد جاءت الشريعة لتحدد لنا معالم هذا الأنس.
ورد في الروايات ما يصف قلب المؤمن بأنه عرش الرحمن، وهذه من أروع ما قيل حول القلب.
فقد رُوي عن الإمام الصادق (عليه السلام):
"القلبُ حرمُ الله، فلا تُسكِن حرمَ الله غيرَ الله"
(بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 67، ص 25).
لذا، فإن المؤمن لا يعطي قلبه لكل أحد، ولا يحب كل أحد، ولا يأنس بكل أحد، حتى وإن كانوا من ذوي القربى. فبعض المؤمنين قد تفشل حياتهم الزوجية لأنهم يعيشون مع أزواج لا يأنسون بهم؛ كأن تكون الزوجة دنيوية الهمّ، وترتكب ما لا يجوز، فيعيش معها المؤمن تكلُّفًا، لا أنسًا.
وقد وقع هذا حتى في حياة الأنبياء، كنبيّي الله لوط ونوح (عليهما السلام)، اللذين عاشا مع امرأتين منحرفتين، كما ذكر القرآن الكريم:
﴿ ضَرَبَ اللَّـهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّـهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ﴾.
فالأنس ليس مع ذوي القربى فقط، بل هو مع من تفرح بوجوده، وترتاح نفسيًا بقربه، مع من ينعش قلبك بكلامه وأخلاقه.
خطر ببالي سؤال منذ مدة:
إذا كان الأنس مهمًا إلى هذه الدرجة، فلماذا لا نأنس مع "أهم شخص" في حياتنا؟
لماذا لا نأنس مع من هو أحنّ علينا من والدينا؟
لماذا لا نأنس مع وليّ أمرنا، صاحبنا، إمام زماننا (عجّل الله فرجه الشريف)؟
نحن نأنس مع الإمام الحسين، مع أبي الفضل العباس، مع أمير المؤمنين، مع مولاتنا الزهراء (سلام الله عليهم أجمعين).
الأنس معهم مهم جدًا، بل هو جزء من نجاتنا.
لكن، لماذا لا نأنس أولًا مع محور الكون في زماننا؟ مع الأصل؟ مع الغريب؟ مع الطريد، الشريد، الوحيد؟
الناس اليوم يأخذون حاجاتهم من القاسم، من أم البنين، من السيدة رقية، من عبد الله الرضيع… لكن لا يطلبون حاجاتهم من إمام زمانهم!
لماذا؟ لأنهم لا يندبونه… فلا يأنسون به.
ملاحظة مهمة: نحن بطبيعتنا نأخذ حاجاتنا ممن نأنس بهم، وممن نشعر بالقرب منهم.
ومن هنا، كانت "غربة صاحب الزمان" بيننا؛ لأنه لا يُذكر كما ينبغي، ولا يُندب كما يليق، ولا يُخصّ بنذر، أو مجلس، أو حتى "سُفرة" باسمه. ولا أقول إن النذور باسم بقية العترة الطاهرة غير جيدة؛ كلا!
لكن لبّ الكلام: لماذا غفلنا عن الأصل؟ هذه الغفلة ليست عابرة، بل لها جذور، ولها أسباب، وهي خطة إبليس للمؤمنين.
خطة إبليس للمؤمنين:
إبليس يقِظٌ، منتبه، إذ يجمع كل قواه ليجعل المجتمع الإسلامي في غفلة عن الأصل والأساس في هذا الزمان.
فهو قد لا يوسوس للمؤمن أن لا يصلي أو لا يصوم، لأنه يعلم أنّ هذا المؤمن قوي في هذا المجال ولن تؤثر وسوسته به، لكن يأتيه من باب آخر؛ يشغله بالهيئات، بالحسينيات، بالزيارة، بالعزاء…
كلها مهمة، نعم! لكنها تُثمر فقط إن كانت تصب في نصرة الإمام الحجة (عجّل الله فرجه). العزاء الذي لا يُختم بدعاء الفرج، لا تقبله الزهراء (سلام الله عليها).
وزيارة الأئمة (سلام الله عليهم) إذا لم تبدأ بدعاء الفرج، لن نأخذ النظرة التي نريدها منهم. والهيئة التي لا تذكر اسم صاحب الزمان، ولا تُقام بنيّة خدمته ونصرته، ليست تحت العناية الإلهية.
عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام):
"لمّا وهب لي ربي مهديّ هذه الأمة، أرسل ملكين فحملاه إلى سرادق العرش حتى وقفا به بين يدي الله عز وجل، فقال له: مرحبًا بك عبدي لنصرة ديني، وإظهار أمري، ومهديّ عبادي. آليت أنّي بك آخذ، وبك أعطي، وبك أغفر، وبك أعذب."
(بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 51، ص 27)
أي: محور الزمان هو الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، وإن نصرناه بألسنتنا وأعمالنا، ستشملنا العناية الإلهية، والعكس صحيح.
قد تجد بعض المؤمنين يزورون الإمام الحسين بانتظام، ويُقيمون العزاء طَوال السنة، لكن لا تجد في حياتهم "رائحة لصاحب الزمان"!
لا يعلمون أنهم غافلون، بل لا يعلمون أنهم ليسوا مؤمنين بحق! وهنا تكون الكارثة.
مثال:
رجل في عصر الإمام الصادق (عليه السلام)، وهو في غفلة عن إمام عصره، ولكنه في الوقت نفسه يزور سيد الشهداء (عليه السلام) بانتظام، ويُقيم مجالس العزاء ويحضرها بكثرة؛ ولكن هذا الشخص ليس بمتديّن، ولا بمؤمن، لأنه في غفلة عن إمام زمانه، وهو الإمام الصادق (عليه السلام).
فمن أعمال إبليس المهمة هي هذه الأمور:
أن يجعل المؤمنين في غفلة عن الأصل والأساس، ويجعلهم مشغولين بباقي الأمور الدينية ليغفلوا عن الموضوع الأساسي والأهم، وهو موضوع "الغيبة" والدعاء لتعجيل فرج مولانا وقائدنا صاحب العصر والزمان (عجّل الله فرجه الشريف).
عزيزٌ عليّ أن أرى الخلق ولا تُرى،
ولا أسمع لك حسيسًا ولا نجوى …
عزيزٌ عليّ أن تُحيط بك دوني البلوى،
ولا ينالك مني ضجيجٌ ولا شكوى …
اضافةتعليق
التعليقات