يقال إن الاعتياد على شيء ما يتطلب التكرار، ولكي يتحقق ذلك نحتاج إلى الالتزام والانضباط بجعل هذه العادة المكررة في وقت محدد كل يوم ويستحسن أن يكون فعل هذا الشيء بين شيئين نحن معتادون على فعلهما، أما الغاية من بناء تلك العادة فهي تحسين جودة حياة هذا الإنسان.
وهذا المعنى ليس على مستوى الحياة المادية بل نجده فيما ورد من نصوص شريفة في فضائل بعض الأعمال من أذكار وسور قرآنية، فهي ليست مجرد فضائل ذُكرت لنطلع عليها، ونعرف أهمية ما فيها أو حتى نقوم بعملها على سبيل التجربة أو كسب الأجر بل هي ذكرت لتكون لنا منهج ومسار، فإن التزمنا بها وجعلناها عادة في حياتنا سنحصد الثمار المعنوية والمادية منها، تلك التي ذكرها المعصوم، هذا جانب.
ومن جانب آخر أن مجرد التكرار من دون تأمل وتدبر فيما نكرر ونعمل لن يوصلنا إلى تحصيل ثمرة هذا الاعتياد، وإعادة الشيء أهم غاياته ترسيخ الأمر المعاد في الذهن مع فهم ما به من أبواب يمكن للإنسان الدخول منها، ومفاتيح لابد من استعمالها لفتح الأبواب المغلقة في وجودنا، تلك المانعة لنا من الوصول لذلك التحسين في حياته.
فطالما أن الإنسان لديه حافز داخلي في البدء ببناء عادة ما في حياته، فهذا مؤشر إن ثمرة هذه العادة هي مفقودة في حياته، وعندما علم بمفتاح إيجادها تولدت عنده هذه الرغبة، إذن هو محتاج لها ولكي يسد هذه الحاجة يجب أن يترجم هذا الحافز الذهني إلى واقع عملي.
فعلى سبيل المثال من منا لا يريد أن يعيش حياة طيبة ويختم له بحسن العاقبة، ويعود إلى ربه ويفوز بمجاورة ربه بمساكن طيبة أعدت للمتقين، بلا شك! كلنا نرجو ذلك، هنا إمامنا الصادق (عليه السلام) يعطينا مفتاح من مفاتيح هذه الرجاء، فعنه (عليه السلام): من قرأ سورة المزمل في العشاء الآخرة أو في آخر الليل كان له الليل والنهار شاهدين مع سورة المزمل، وأحياه الله حياة طيبة وأماته ميتة طيبة"(١). ففي هذه الرواية نجد أن الامام عليه السلام قد خصص لنا عادة إلا وهي قراءة سورة المزمل كل ليلة، وأعطانا وقت نخصصه لهذه العادة.
والسؤال الأهم: ما هي المفاتيح التي علينا أن نجدها في هذه السورة كي نتأملها ونتدبرها ونكررها على أنفسنا كل ليلة حتى تتحول إلى سلوك عملي، ينقلنا إلى ما نريد بلوغه وهو أن تصبح حياتنا طيبة ومماتنا طيب؟
فالسورة عبرت عن آياتها بأنها تذكرة، بقوله تعالى: {إِنَّ هَٰذِهِۦ تَذۡكِرَةٞۖ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِۦ سَبِيلًا}
فأنت كلما قرأتها وخاصة قبل النوم -إذ تترسخ الفكرة في العقل أكثر، ويصبح تحولها إلى واقع معاش بشكل أسهل - فما هذه الأمور التي إن لم نغفل عنها وبقينا نتذكرها واتخذناها سبيل إلى الله تعالى ستتحول حياتنا طيبة مستطابة؟
الأمر الأول: قيام الليل، قال تعالى: {قُمِ ٱلَّيۡلَ إِلَّا قَلِيلٗا * نِّصۡفَهُۥٓ أَوِ ٱنقُصۡ مِنۡهُ قَلِيلًا * أَوۡ زِدۡ عَلَيۡهِ وَرَتِّلِ ٱلۡقُرۡءَانَ تَرۡتِيلًا}، فعن الإمام العسكري (عليه السلام): "إن الوصول إلى الله -عزّ وجل- سفر، لا يدرك إلا بامتطاء الليل"(٢)، فإن لم يكن للإنسان هذا السبيل في حياته لن يصل لحياة طيبة.
بل الملفت في هذه السورة قوله تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ ٱلَّيۡلِ هِيَ أَشَدُّ وَطۡـٔٗا وَأَقۡوَمُ قِيلًا * إِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ سَبۡحٗا طَوِيلٗا}، وكأنها آية عتاب ستكررها على نفسك كل يوم قبل المنام، بأن الله تعالى أعطاك النهار والليل كله تفعل به ما تشاء وتلتقي وتتحدث مع من تشاء، ألا يكفيك كل هذا الوقت، لتكن لك مع ربك ساعة تحدثه وتذكره وتقوم بين يديه وتتلو كتابه، لتصنع على عينه، فيمدك نوراً وبصيرةً وقوةً ترى بها الحياة الدنيا على حقيقتها وتحيا بها كما يجب… حياة طيبة؟!
الأمر الثاني: التوكل على الرب وتوحيده على مستوى الاستعانة في تدبير شؤوننا، قال تعالى: {رَّبُّ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَٱتَّخِذۡهُ وَكِيلٗا}، فإن أردنا أن نفتش عن أبرز منغص للحياة، سنجده في التوكل على الأسباب المادية، وعلى الخلق، فالتوكل على رب العالمين من موجبات الهناءة في المعيشة، والسعي بإطمئنان، والرضا بما قدر لنا من أرزاق، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): "من أعطي التوكل أعطي الكفاية"(٣).
الأمر الثالث: الصبر على الناس في المعاملات الحياتية، قال تعالى: {وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً}، فالحياة لا تطيب من دون هذه الخصلة، الآية تبين أن الصبر مطلوب بكل الأحوال، فلا يخلو منطق الناس ولا أفعالهم من أذى بقصد أو دونه، ومن دون هذا التحمل الذي لابد أن نربي أنفسنا عليه لن تَسكُن النفس وتعيش حالة السلام الداخلي تجاه الآخرين، وإن تطلب الأمر الهجر وعدم التواصل فليكن جميلاً، بمعنى من المعاني لا يكن هذا الهجر بطريقة تترك أثراً داخل النفس سواء من الهاجر أو المهجور.
بل ليكن إنهاء العلاقة بإحترام، كلاً يتذكر الآخر بخير، لأن الهجر غير الجميل سيبقى شيء من الثقل في النفس وبالنتيجة نحن نهجر من يؤذينا لنرتاح لا ليبقى ذلك الأذى معنا بغياب صاحبه، يقول الإمام الصادق (عليه السلام): "الصبر يعقب خيراً، فاصبروا تظفروا"(٤).
الأمر الرابع: التأكيد على قراءة كتاب الله، قال تعالى: {فَٱقۡرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلۡقُرۡءَانِۚ}، ثم قال في نفس الاية {فَٱقۡرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنۡهُۚ}، فالقراءة هي أول مراتب علاقة الإنسان المؤمن بكتاب ربه، لذا فتركها يعني هجر كلام الله، ولنا أن نتخيل أي حياة طيبة يمكن أن يصل إليها من كان هاجراً لكتاب ربه!
الأمر الخامس: الإتيان بالفرائض كإقامة الصلاة والإنفاق مما أوجب علينا كالزكاة، ومما لم يوجد طلباً للفضل الالهي، قال تعالى{وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَقۡرِضُواْ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗاۚ}، فالإنسان كلما اكتسب علاقة معرفية ووجدانية بربه، كان اتيان ما فرض عليه من الطاعات واجتناب ما نهي عنه من المكروهات أسهل وأفضل من ناحية الإخلاص والتوجه، وأي عبد أتى ما وجب عليه وانتهى عما نهي عنه لم يذق طعم الحياة الطيبة.
الأمر السادس: الاستغفار، قال تعالى: {وَٱسۡتَغۡفِرُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمُۢ}، ويكفينا في بيان شيء من مراد هذا الأمر هو قول النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): "عوّدوا ألسنتكم الاستغفار، فإنّ الله تعالى لم يعلّمكم الاستغفار إلّا وهو يريد أن يغفر لكم"(٥).
اضافةتعليق
التعليقات