لا يرغب المشاهد في مشاهدة الإعلانات؛ فهو لا يريد أن يقطع أي شيء من متعة المشاهدة التي يستغرق فيها؛ لذلك يقاوم عقله الإعلان التلفزيوني. آرثر كوفر.
ثبت لدينا حتى الآن أن هناك اختلافات حول آلية عمل الإعلان، حيث يؤكد نموذج الإقناع التقليدي، الذي يميل إليه كثيرون في صناعة الإعلان، أن الغرض من الإعلان هو جذب الانتباه وتقديم رسالة مقنعة تُحدث تغييرًا في اتجاهات المتلقي. وترى وكالات الإعلان في الانتباه أكبر عائق يجب التغلب عليه، وتعتبر تذكُّر الإعلان المقياس الأهم، بينما ترى شركات التسويق أن مهمة توصيل الرسالة الإعلانية هي العائق الأكبر، وأن إحداث تغيير في التوجه هو المقياس الأهم. ثم هناك آراء معارضة تقول إن الإقناع نموذج مغلوط، وإن الإعلان مؤثّر دون لفت الانتباه أو تغيير التوجهات. غير أن هناك مسألة أخرى ترتبط بجميع هذه الآراء المتضاربة: ما هو عدد الإعلانات القادر على دفعنا إلى الانتباه لها؟
لو رجعنا إلى الأساسيات سريعًا، فسنجد أنه لا خلاف على أن الشركات تلجأ إلى الإعلان لأن لديها منتجات أو خدمات تريد بيعها لنا. ثم توصلنا بعد ذلك إلى حقيقة أن الجمهور، منذ بداية الإعلانات في القرن الثامن عشر، لم يُبدِ أي استعداد للانتباه لتلك الرسائل الإعلانية. ثم جاء عصر التلفزيون، وافترض الجميع أن الصورة ستتغير، والسبب ببساطة أنك بدلاً من أن تخرج لتشتري جريدة، ثم تتصفحها بحثًا عن إعلان، فإن كل ما عليك هو أن تجلس في مقعدك وستصلك الإعلانات في الفواصل بين البرامج التي تشاهدها. والأكثر من هذا أنها لن تكون مجرد صور ثابتة، بل عرضٌ مثير كله حركة وصوت. ففي التلفزيون عناصر تشويق أكثر من الوسيط المطبوع، وهكذا يقول المنطق إن الإعلانات التلفزيونية ستكون - بديهيًّا - أكثر جاذبية.
تبدو نظرية جيدة، لكن للأسف لم تثبت وجاهتها؛ ففي فبراير 2003 نشرت صحيفة "الإندبندنت" بيانًا صحفيًّا من كلية لندن للأعمال حول بحث أُجري باستخدام كاميرات وُضعت في المنازل، وكان عنوان البيان كالتالي: "تقرير حديث من كلية لندن للأعمال يقدم تحليلًا لما يقوم به مشاهدو التلفزيون أثناء الفواصل الإعلانية". ومن المؤسف أن نقول لشركات التسويق إنه قد ثبت أن المشاهدين نادرًا ما يشاهدون تلك الإعلانات.
ورغم أن هذا البحث أُجري على عدد محدود من العائلات، فإن أبحاثًا أخرى أكدت دقة نتائجه، بل ذكرت أن ذلك البحث قد صوّر الوضع على نحو أقل مما هو حادث بالفعل؛ فقد تبيّن في أوائل ثمانينيات القرن العشرين أن ما بين 20 إلى 40% من المشاهدين يغادرون الغرفة عند بداية الفاصل الإعلاني، وتبيّن في تسعينيات القرن ذاته أن ثلثي المشاهدين ينشغلون بنشاط آخر أثناء مشاهدة التلفزيون وبحلول عام 1994، ذكرت دراسة أن نصف عدد المشاهدين لا يرغبون في الإعلانات التلفزيونية. أما في القرن الجديد، فقد أظهرت دراسة أن من يشاهدون البرامج التلفزيونية المسجّلة سابقًا يعمدون إلى تجاهل الفواصل الإعلانية تمامًا، والانتقال بالمؤشر إلى ما بعد الفاصل .
أي إننا قد نهوى مشاهدة البرامج التلفزيونية، بل وربما نحب برامج تتحدث عن صناعة الإعلان، ولكننا نفضّل أكثر الدردشة مع أفراد العائلة، أو إعداد الشاي، أو تفقد البريد الإلكتروني، أو مداعبة كلب، على مشاهدة الإعلانات نفسها.
فما هو تفسير عدم رغبتنا في التفاعل مع الإعلان التلفزيوني؟ أثناء إصرار صناعة الإعلان على رفض أفكار كروجمان وإرينبرج، طرح أكاديميو علم النفس تفسيرًا مختلفًا؛ ففي عام 1982، أشار اثنان من علماء النفس بجامعة أوهايو، وهما ريتشارد بيتي وجون كاتشوبو، إلى أن مدى الاهتمام بمجال منتج ما هو المسؤول عن الطريقة التي يتعامل بها المتلقي مع الإعلان، وهو الأمر الذي أدى إلى صياغة ما يُعدّ "الإسهام النظري الأكثر تأثيرًا"، للأوساط الأكاديمية المعنية بالإعلان، وهو "نموذج احتمالية الاستغراق".
نموذج احتمالية الاستغراق
مفاد هذا النموذج أن هناك مسارين مختلفين يمكن للإعلان من خلالهما تحقيق تغيير في سلوك المستهلك، وأن هذين المسارين يختلفان وفق "مدى ما ينجم من تغير في التوجه ... بفعل التفكير النشط"، وجوهر مقترح بيتي وكاتشوبو أن الجمهور المرتبط والمتابع للمجال الخاص بالمنتج يفكر بقدر أعمق، أي يستغرق في الرسالة التي يقدمها له الإعلان، أما خلاف هذا الجمهور من المشاهدين فلن يُبدوا ذلك القدر من الاهتمام تجاهه. وهذان المساران هما – كما اتُّفق على تسميتهما – "المسار المركزي" و"المسار المحيطي".
أما المسار المركزي، فهو ما يمكننا أن نعتبره أسلوب الإقناع التقليدي، الذي يكون فيه التعامل مع الرسالة الإعلانية عملية محكومة وعميقة ومنهجية وتتطلب جهدًا. ويقدم المؤلفان الوصف التالي: "عندما تُعزّز الظروف من دافعية الجمهور وقدرته على التفكير في الأمر، يكون مستوى احتمالية الاستغراق عاليًا، وهو ما يعني أنه من المرجح أن يتم الانتباه إلى الرسالة؛ كما تزداد احتمالات محاولة معالجة ما يتصل بذلك من ارتباطات وصور وخبرات مسترجعة من الذاكرة".
وعلى النقيض من ذلك، فإنهما يصفان المسار المحيطي بكونه "تلقائيًّا، وغير عميق، وغير منهجي، وغير منطقي، ويستند إلى تداعيات وجدانية أو استدلالات بسيطة متصلة بإشارات غير مركزية"؛ بمعنى أنه مسار ضعيف، غير مقنع، ومشابه نوعًا ما لذلك الذي وصفه كروجمان وإرينبرج.
وقد عزز بيتي وكاتشوبو نظريتهما بأن قاما بإجراء ثلاث تجارب مع طلاب الجامعة؛ حيث اقترحا موضوعًا للمناقشة حول مرحلة اختبارات جديدة، وهما يعرفان أن من شأن هذا الموضوع أن يُثير اهتمام الطلاب ويدفعهم إلى المشاركة، بل والاختلاف حوله. ووجدا في التجربة الأولى أن الطلاب المعنيين بالموضوع قد تأثروا أكثر بوجاهة الاقتراح الجدلي ذاته الذي تم عرضه، بينما كان أكثر ما أثّر في مجموعة غير المعنيين بالموضوع هو شكل وهيئة الشخص الذي كان يُوصل إليهم الاقتراح.
أما في التجربة الثانية، فوجدا أن التأثير على مجموعة المعنيين بالموضوع حدث مع عرض الاقتراح الجدلي مرة واحدة، ولكن مجموعة غير المعنيين بالموضوع احتاجت إلى تكرار عرضه قبل اتخاذهم قرارًا بشأنه. وفي النهاية، وجدا أن تغير التوجه الناتج عن عرض الاقتراح المختلف عليه بين المجموعة المعنية بالموضوع يكون دائمًا وطويل الأمد، بينما يكون تغير التوجه لدى المجموعة غير المعنية مؤقتًا وقصير الأمد نسبيًّا.
ليس من المستغرب أن يجد بيتي وكاتشوبو أن المسار المركزي، الذي يتسم بالتفكير النشط والاهتمام الكبير، أكثر فعالية من المسار المحيطي منخفض الاهتمام. وقد افترضا أن تغيير التوجه ضروري حتى يكون الإعلان فعّالًا، ووَصَفَا ما وجداه، على حد تعبيرهما، بأن "تغيرات التوجه من خلال المسار المركزي تكون أكثر ثباتًا ومقاومة، وأكثر تنبؤًا بالسلوك مقارنة بالتغيرات الناجمة عن المسار المحيطي".
ولكن هذه النتيجة تتماشى تمامًا مع تفكير كروجمان وإرينبرج، حيث تقترح نظرياتهما أن الإعلان عاجز عن إحداث تحولات طويلة الأمد في التوجهات، على أن الفارق بالطبع هو أن كروجمان وإرينبرج قد رأيا في المعالجة المحيطية الطريقة التي يتم بها التعامل مع معظم الإعلانات، واعتبراها وسيلة دعاية جيدة تمامًا للتأثير في السلوك.
على المستوى الأساسي، هناك وجاهة لنموذج احتمالية الاستغراق؛ فنحن نعتقد عمومًا أننا نولي المزيد من الانتباه للأشياء التي تحفزنا وتدفعنا إلى المشاركة، ويقل انتباهنا إلى الأشياء التي لا نهتم بها. ولكن الأدلة التي لدينا من دراسة كلية لندن للأعمال تشير إلى أن الاهتمام بالسوق لا يفسر في الواقع سلوكنا تجاه الإعلان؛ فإذا كنا نولي المزيد من الانتباه إلى الإعلانات التي تتناول أشياء تهمنا، فسوف يتصف سلوك المشاهدة التلفزيونية بتذبذب مستويات الانتباه. ببساطة، يتوقف انتباهنا أو تجاهلنا للإعلانات على مدى اهتمامنا بالأشياء المُعلَن عنها.
ولكن هذا لم يكن ما توصل إليه باحثو الكلية، فقد وجدوا أن الناس في الغالب يتجنبون الإعلانات، وخاصةً إذا كان هناك أكثر من شخص واحد في الغرفة. والفترة الوحيدة التي يُشاهد فيها المشاهد الإعلانات هي خلال الساعات المتأخرة من الليل، عندما يكون متعبًا جدًّا ويكسل عن ترك الغرفة. وفي بحثي، وجدت أن الاهتمام بالمنتج لا يُحدث في الواقع أي فارق في مستوى الانتباه للإعلان التلفزيوني؛ ففي ظل ظروف مصممة بعناية بحيث تحاكي تجربة المشاهدة الطبيعية، وجدت أن مستويات الانتباه للإعلانات عن المنتجات والعلامات التجارية التي يستخدمها المشارك، الذي يُفترض أن يكون - بناءً على ذلك - أكثر تفاعلًا معها، لم تختلف تمامًا عن مستويات الانتباه للإعلانات عن المنتجات والعلامات التجارية التي لم يسبق له استخدامها.
والأمر هنا يعتمد جزئيًّا على الطريقة التي تتبعها وكالات الإعلان عند صنع الإعلانات التلفزيونية؛ ففي كثير من الأحيان، يكون من الصعب التعرف على الماركة أو حتى مجال المنتج إلا في نهاية الإعلان. والفكرة هي أنه طالما أنك تجهل المنتج الذي يعرضه الإعلان، فإنك سوف تشاهده بعناية أكبر من أجل معرفة ذلك، ولكن إذا كان المشاهد متجاهلًا للإعلانات بوجه عام، فإن هذا النهج يأتي بنتائج عكسية تمامًا؛ فهو إما أن يغيّر القناة قبل أن ينتهي الإعلان، أو ببساطة يتجاهل مشاهدة الإعلان من الأصل.
على أن هناك سببًا أقوى من ذلك بكثير وراء عدم مشاهدة الإعلانات، وهو سبب له علاقة بما ننتظر أن نتعلمه منها؛ فقد كان موضوع المناقشة في تجارب بيتي وكاتشوبو أخبارًا تتعلق باختبار جديد، وهو موضوع يعلمان أنه سيكون مهمًّا جدًّا للطلاب المنتظر خضوعهم لذلك الاختبار. المؤسف أن شركات التسويق الحديثة نادرًا ما تمتلك فرصة إدراج عناصر بمثل هذا القدر من الجاذبية في إعلاناتها؛ فالتطور المذهل في التكنولوجيا الحديثة يجعل العلامات التجارية في أغلب الأحيان قادرة على استيعاب أي أفكار جديدة في وقت أقل مما يستغرقه صنع إعلان تلفزيوني. فمعظم الإعلانات التلفزيونية تقدم رسالة إلى المشاهد يعرف محتواها سلفًا؛ فما الحافز الذي يدفعه إلى الانتباه لتلك الرسالة إذن؟
بطبيعة الحال، كلما أصبحت شركة التسويق أكثر قدرة على مواكبة المنافسين وتحسين المنتج، توافر لها نطاق اختيار أكبر. وقد نظن أن هذا من شأنه أن يشجعنا على أن نكون أكثر انتباهًا للإعلان التلفزيوني، ولكن الواقع العملي يُثبت العكس.
اضافةتعليق
التعليقات