كنت جالسة في مكتبي ذلك الصباح، أراجع بعض الأوراق على عجل، حين جاءت زميلتي وجلست أمامي بصمت غريب. لم تبدأ بالتحية المعتادة، بل أخذت نفساً عميقاً وقالت بصوت هادئ وكأنها تريد أن تفرغ شيئاً يثقل قلبها: "والدتي هذه السنة ليست بخير… صحتها ضعفت كثيراً." رفعت رأسي إليها وأنا أرى في عينيها ذلك اللمعان الحزين الذي يعرفه كل من يخاف على أمه، ثم تابعت وهي تحاول أن تحافظ على ابتسامتها: "أمي كانت تنتظر أيام الأربعين من العام إلى العام كما ينتظر الطفل عيده، كانت تعدّ الأيام بشوق، وتبدأ التحضيرات قبل الزيارة بأسابيع، تفرش السجادات في الصحن الصغير أمام البيت، تنظف الزوايا بعناية، ترتب الأواني الكبيرة على الرفوف وكأنها ترتب قلوبنا جميعاً لاستقبال الضيوف، وتظل واقفة على الباب تنتظر الزائرين كمن ينتظر موكب الملوك… لكن ملوكها لم يكونوا يلبسون التيجان، كانوا يأتون حفاة أو بأحذية غبراء، يحملون في وجوههم نور الطريق وفي أقدامهم غبار المسير".
سكتت لحظة ثم أضافت: "أما هذا العام، فقد اضطرت أن تلزم الفراش، قالت إن جسدها لم يعد يحتمل، وإنها لن تستطيع أن تخدم كما كانت تفعل، وكنت أراها تحاول أن تتقبل الأمر وكأنها تواسي نفسها."
كنت أصغي إليها وكأنني أسمع قصة عن زمن بعيد، عن امرأة كربلائية الروح حتى النخاع، لكن زميلتي فجأة اقتربت بصوتها مني وكأنها تهمس بسرّ عظيم: "لكن ما حدث لم يكن عادياً أبداً… رن الهاتف، كان أحد أقاربنا يخبرنا أن هناك مجموعة من الزائرين وصلوا ويحتاجون إلى مأوى، ولم يكد ينهي جملته حتى رأيت أمي، التي كانت منذ أيام تئن من التعب، تقوم من فراشها باندفاع رتبت خمارها بسرعة، وارتدت عباءتها، وتحركت بخفة وكأنها لم تعرف المرض يوماً، لم نلحق بها وهي تقول: الحسين ناداني، وخدمته شرف لا يُرفض… دعاني إمامي، وأنا تحت أمره." قالتها بلهجة يقينية لا تقبل نقاشاً، وكأنها تلقت أمراً من قلبها قبل أذنها.
ظللت أنظر في وجه زميلتي وأنا أستشعر حرارة تلك الجملة، شعرت أن ما حدث مع أمها أكبر من مجرد قصة عاطفية، كان أشبه بنداء غيبي، نداء لا يسمعه إلا من عاش ولاء الحسين (عليه السلام) في أعماقه، نداء لا يُقاس بقوة الجسد، بل بصدق الروح. لم تنهض تلك الأم لأنها استردت عافيتها فجأة، بل لأنها استجابت لنداء أكبر من الألم، لأن اسم الحسين (عليه السلام) أيقظ فيها طاقة أعمق من حياة الجسد، ولأن خدمة زواره عندها عبادة لا يوازيها عمل آخر.
كنت أسمعها وأشعر أن زيارة الأربعين ليست حدثاً نراه في الشوارع والمواكب فحسب، بل هي امتحان شخصي لكل فرد، امتحان يكشف أين يقف قلبك حين يطرق الولاء بابه. هناك من يوفَّق للسير إلى كربلاء، وهناك من يوفَّق لخدمة الزائرين، وهناك من يكون نصيبه دمعة صادقة أو دعاء من بعيد، وكلها استجابات لنداء واحد، لكن الموفَّق هو من يجيب دون تردد. أدركت حينها أن ما حدث مع والدة زميلتي ليس أمراً عابراً، بل هو جزء من معجزة الأربعين، تلك المعجزة التي تجعل القلوب تسبق الأجساد، وتجعل الضعفاء أقوياء، والمرضى عاملين، والبعيدين قريبين.
وأنا أستمع، كنت أتمتم في داخلي: كم مرة مرّ بنا هذا النداء ولم نسمعه؟ كم مرة اختبأنا خلف أعذارنا ونحن نعلم أننا لو قلنا "لبيك" لفتح الله لنا من القوة ما لا نملك؟ الأم المريضة لم تتردد، لأنها تعرف أن الامام الحسين لا يدعو عبثاً، وأن خدمته شرف يُمنح مرة وقد لا يمنح ثانية. في تلك اللحظة، شعرت أنني أمام درس حيّ في الولاء، درس يقول إن المحبة الحقيقية للحسين لا تعرف شروطاً ولا تنتظر ظروفاً مثالية، إنها جاهزة دائماً لأن تنهض، حتى من فراش المرض، وتقول: "أنا تحت أمرك يا سيدي."
أنهت زميلتي حديثها، لكن كلماتها لم تنتهِ في داخلي، بل بقيت تدور في أركان قلبي كما يدور الزائر حول الضريح، كلما وصلت إلى جملة "الحسين ناداني" شعرت برجفة، وكأن هذه العبارة ليست مجرد حكاية سمعتها، بل نداء شخصي يطرق باب روحي. أدركت أن زيارة الأربعين ليست موعدًا سنويًا محفوظًا على التقويم، بل هي زمن خارج الزمن، فيه يُمتحن صدق العشق، وتنكشف النوايا على حقيقتها.
ذلك النداء الذي سمعته أمها ليس حكرًا على آذانها، إنه يمرّ على قلوبنا جميعًا، لكن بعضنا يصغي، وبعضنا يصمت، وبعضنا يتظاهر بأنه لم يسمع. الحسين لا ينادي الأجساد فحسب، بل ينادي الأرواح التي لم تُطفأ فيها شعلة الولاء، الروح التي ما زالت تعرف الفرق بين النداء من السماء والنداء من الأرض.
إن زيارة الأربعين ليست فقط مشيًا على الأقدام نحو كربلاء، ولا فقط موائد ممتدة لخدمة الزوار، إنها قبل كل شيء حالة من الصفاء، لحظة يتداخل فيها زمن أبا الشهداء بزمنك أنت، فتشعر أن حياتك كلها امتحان واحد، إما أن تجيب: "لبيك" أو تصمت. وكل "لبيك" تُقال من القلب، تُكتب في سجل العاشقين، حتى لو لم يرَها أحد.
حين يطرق الحسين بابك، لا تسأل كم الطريق طويل، ولا كم الجهد عسير، ولا إن كان جسدك يحتمل… اسأل فقط قلبك: هل تستطيع أن تقول "لبيك"؟ فإذا أجابك قلبك قبل لسانك، فقد وُفِّقت، وكنت من أولئك الذين لا يحتاجون لموعد أو استعداد، لأنهم دائمًا في حالة استعداد، حتى ولو كانوا على فراش المرض.
هكذا، وأنا أستمع لزميلتي، شعرت أن قصة أمها لم تكن قصة خاصة بعائلة واحدة، بل هي مرآة لكل قلب ما زال حيًا بولاء الحسين (عليه السلام)، وكل من يعرف أن نداء الأربعين قد يأتي فجأة، وقد يكون آخر نداء في العمر… وحين يأتي، لن ينفعنا إلا أن نكون على أهبة أن نقولها بصدق: لبيك يا حسين.
اضافةتعليق
التعليقات