في إحدى رحلاتها الاستكشافية إلى الشرق الأوسط، وقفت المستشرقة البريطانية كاترين مذهولة أمام صدى الحزن الذي يملأ الأجواء في مدينة كربلاء. لم تكن مجرد زائرة تبحث عن آثار أو معالم تاريخية، بل كانت روحاً عطشى لفهم أعماق الإنسان وتاريخه ومعاناته. وهنا، وجدت في كربلاء ملحمة لا تشبه غيرها.
دخلت كاترين المدينة في موسم عاشوراء، حيث كانت الشوارع مليئة بالسواد، والوجوه حزينة، والقلوب مكلومة. لم تكن تعرف الكثير عن واقعة كربلاء قبل زيارتها، لكن الفضول قادها لتسأل، وتقرأ، وتستمع. وكانت البداية عندما وقفت أمام ضريح الإمام الحسين، حيث رأت الناس يبكون بحرقة، رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً، وكأن المصيبة وقعت في الأمس.
سمعت كاترين قصة الحسين بن علي، حفيد النبي محمد، الذي خرج من المدينة رافضاً مبايعة يزيد بن معاوية على الخلافة، بسبب فساده وجوره. سمعت كيف سافر الحسين مع أهل بيته وأصحابه إلى الكوفة، لكنه حوصر في كربلاء، ومنع من الماء، وقتل عطشاناً هو وأهل بيته وأصحابه في العاشر من محرم سنة 61 للهجرة.
كانت تتنفس القصة كما لو أنها تعيشها، تساءلت: كيف يمكن أن يُقتل رجل من أجل كلمة حق؟ كيف يُذبح طفل وهو يصرخ “العطش”؟ لماذا وقفت زينب، أخت الحسين، بكل هذه القوة وسط النيران والدماء، لتحمل الرسالة إلى العالم؟
في مذكراتها، كتبت كاترين:
“كربلاء لم تكن حرباً بين جيشين، بل كانت صراعاً بين النور والظلمة، بين المبدأ والانصياع، بين الضمير والسلطة. كنت أظن أن التاريخ الإسلامي مجرد تواريخ خلفاء ومعارك، لكن كربلاء فتحت لي نافذة إلى إنسانية عميقة، وصرخة لا تزال تتردد في ضمائر الأحرار.”
اندمجت كاترين مع المجالس الحسينية، واستمعت إلى الخطباء وهم يروون تفاصيل المعركة، ويشرحون فلسفة الحسين في الثورة، حتى أدركت أن الحسين لم يخرج طلباً للسلطة، بل دفاعاً عن كرامة الأمة ورفضاً للذل. قالت: “إن الحسين لم يكن فقط بطلاً دينياً، بل رمزاً عالمياً للحرية والكرامة.”
لقد رأت في كربلاء ما لم تره في كتب التاريخ ولا في نظريات الغرب السياسية. رأت أن دم الحسين أصبح رمزاً دائماً للثورة ضد الظلم. كانت تبكي عندما تسمع عن استشهاد علي الأكبر، وتشهق عندما تروى قصة العباس، وتتعجب من صمود السيدة زينب أمام الطاغية يزيد.
وفي نهاية زيارتها، كتبت كاترين مقالاً بعنوان: “في كربلاء وجدت نفسي”. وصار هذا المقال حديث الأوساط الأكاديمية الغربية، لأنه لم يكن تحليلاً سياسياً، بل شهادة حيّة لإنسانة غير مسلمة، لمست جوهر المأساة بمعناها الإنساني.
كربلاء لم تُروَ فقط بدماء شهدائها، بل أصبحت تُروى بكلمات من عرفوا قيمتها. وكاترين كانت واحدة من أولئك الذين لم يولدوا في الشرق، لكنهم انتموا إليه من حيث الوجدان والضمير.
اضافةتعليق
التعليقات