في زحمة الحياة وتسارع اللحظات، تبقى هناك لحظة مختلفة… لحظة يتوقّف فيها كل شيء، يصمت الضجيج، وتنسحب الدنيا من بين يديك كأنها لم تكن. ليست لحظة زمنية فقط، بل لحظة روحانية تتجاوز حدود الساعة والتقويم. إنها لحظة الصلاة، حين لا يُخاطَب الجسد، بل يُنادى القلب. لكن ليست أي صلاة… إنها صلاة الخاشعين.
الصلاة الخاشعة ليست حركات معتادة تُؤدى تلقائياً، بل هي لقاء، موعد مقدّس بين العبد وربه. حين تقف لتصلي، فأنت لا تؤدي واجباً روتينياً، بل تدخل إلى حرمٍ داخلي، حيث ينكشف الغطاء، ويُلقى ما علق بالقلب من أدران العالم. الركوع ليس فقط انحناء الظهر، بل انكسار الكِبر. والسجود ليس لمساً للأرض بالجبهة، بل تذكير لك بأنك منها جئت، وإليها تعود، ومنها تُبعث مرة أخرى.
الخشوع، في جوهره، هو الصمت العميق الذي يصدر من الداخل، هو تلك اللحظة التي لا تعود فيها تُفكر إلا بالله. إنه حضورٌ كامل، لا لجسدك فقط، بل لعقلك، وعاطفتك، وروحك. كل ذرةٍ فيك تُعلن أنها الآن في حضرة الإله. حين تخشع، يتوقف الزمن، ويذوب العالم، فلا يبقى في الكون إلا أنت و"هو".
الصلاة الخاشعة تطهّر القلب من شوائب الغفلة، وتعيد للروح شفافيتها. من ذاقها مرة، لم تعد ترويه صلاةٌ بلا قلب. من ركع لله وهو حاضر القلب، عاد إلى دنياه شخصًا آخر… أكثر طمأنينة، أكثر وعيًا، وأكثر قربًا من ذاته التي طالما نسيها. إنها عبادةٌ تعيد الإنسان إلى أصله، وتُذكّره بمصيره، وتمنحه مفتاح العروج.
في السجدة الأولى، نتذكّر أننا خُلقنا من تراب: "منها خلقناكم". وعند رفع الرأس، نستشعر أننا نعيش لحظةً مؤقتة في دارٍ فانية. وفي السجدة الثانية، نستعدّ للرحيل: "وفيها نعيدكم". ثم نرفع رؤوسنا مرة أخرى، حاملين أمل العودة: "ومنها نخرجكم تارة أخرى". الصلاة بهذا المعنى ليست فقط أذكاراً، بل رحلة وجودية، تختصر الموت والبعث بين تكبيرة وركعة.
ولأن هذه الرحلة تحتاج إلى طهارة، فكما نحرص على الطهارة الظاهرة، يجب أن نسعى للطهارة الباطنية… من الكبر، من الحسد، من حب الدنيا، ومن غفلة القلب. وكما نُوجه وجوهنا إلى القبلة، علينا أن نوجه قلوبنا إلى الله، فلا تلتفت إلى غيره. فالاتجاه الظاهري لا يغني عن الاتجاه الباطني، لأن ما يُقبل في الصلاة هو القلب.
الصلاة ليست ثقلاً نؤديه، بل نعمة نرتقي بها. وليست مجرد فرض، بل فرصة للتحرر من قيود النفس. هي عبادة من نوعٍ خاص… لا تُطلب بالجسد فقط، بل يسعى فيها القلب إلى مقام العبودية الصادقة. من يُصلِّ بخشوع، لا يعود كما كان. فالصلاة الخاشعة ليست نهاية… بل بداية جديدة.
اضافةتعليق
التعليقات