كأسي انكسرت... فانسكب دم الأيتام على الأرض، بينما تُقطع أحشائي بصَرير سلاسل المظلومين، والواعظون يرقصون على جثث دفنوها بأفواههم قبل أن تبرد.
الكأس لم تكن مملوءةً بالماء، بل بقيح الضمائر، ومنظرها يفتح جروح الجوعى الذين التهمتهم السجون صامتين، وصوت أخي يصرخ تحت الركام: "أنقذوني"، بينما واعظ السلطان يُهدئ الجمهور بحديث مقطوع السند: "السكوت حكمة"، ويد القاتل تقطر دماً طرياً، يتسلل إلى المنبر ويغسل الجهلةُ أيديهم به، ويقولون: "هذا ليس دماً، بل طهارة السياسة وعطر الساسة"، في ذات الوقت الذي تكون فيه الأم تلتقط أشلاء ولدها من أمام دار القضاء، بينما القاضي يخطب في "حرمة التشهير بالحُكّام".
فتحولت الكلمات جثثاً، وكل لفظة "حرية" تُشنق في الساحات. صرخ قريبي بصوت عالٍ فأيقظني من سرابي الذي عشت فيه لثوانٍ معدودات، وهو يُنبهني ألا يضرّني الزجاج الذي تلاشى من كأسي بعدما أبصرته دم المظلومين، في اللحظات التي سمعته بها ينطق كلماتٍ سامة وهو يدافع عن الجلاد في مدينته، وهو يعلم أنه سارق وقاتل في آنٍ واحد، لكن "المصلحة" أضافت غشاء الشيطان على عينيه.
هنا تذكرت قول مولاي الإمام الجواد (عليه السلام):
"كفى بالمرء خيانة أن يكون أميناً للخونة."
ويبرز حديث الإمام الجواد (عليه السلام) كمنارة أخلاقية في زمنٍ تتداخل فيه المصالح وتتعدد الولاءات، تحذيراً من خطر الخيانة غير المباشرة، مُركّزاً على قبح الموقف بتشريح دقيق لآفةٍ اجتماعية خطيرة، وهي "الخيانة بالولاء".
فليس الخائن فقط من يرفع السيف ضد الحق، بل أيضاً من يمدّ جسر الصمت أو التأييد للظالم، ويُلبس خيانته ثوب "الواقعية" أو "الضرورة".
فإن الحديث يضعنا أمام مرآة قاسية توضح أنه لا توجد براءة في أن تكون "محايداً" أو "متعاوناً" مع نظام الفساد.
فمن يُظهر الولاء للخونة، حتى لو لم يشاركهم أفعالهم، يصبح شريكاً في إضفاء الشرعية على جرائمهم، والإمام (عليه السلام) يرفض هنا أي حُجّة تُبرر هذا الانزلاق، سواء كانت "خوفاً"، أو "مصلحة"، أو "تبعية عمياء".
وفي التاريخ الإسلامي، نجد أمثلة كثيرة على هذا النوع من الخيانة: وعّاظ السلاطين الذين برروا الظلم، والقضاة الذين حنّكوا جرائم الحُكّام بفتاوى مزيفة، والكُتّاب الذين حولوا أقلامهم إلى سكاكين يذبحون بها الحقيقة.
ولا نذهب بعيداً... لننظر اليوم كيف تنهش الذئاب أجساد الفقراء بحجة قانون لا يُطبّق إلا على المجردين من حياتهم، ولا ننسى حُكم الفاجرات، وكيف يسير الوقت طبقاً لأهوائهن، والفاسق يقف بكل شموخ ويقول: "سرقت، أليس من مبصر؟"، ويمر بسلام.
والمثقفون الذين يبيعون ضمائرهم، ويحولون معارك الأمة إلى مجرد حوارات صالونات فاخرة، ومنهم إلى الإعلاميين الذين يغسلون أدمغة الجماهير بأكاذيبٍ مُحلّاة بلغة "الوطنية الزائفة".
وأخيراً، وليس آخراً، أولئك الذين يدّعون الدين ويسكتون عن المنكر.
وببساطة، هؤلاء لم يرفعوا السيف بأنفسهم، لكنهم بولائهم للخونة ساهموا في تمهيد الطريق للجريمة، فجميعهم، وإن لم يشاركوا في القتل مباشرة، أصبحوا "أمناء للخونة" بحسب تعبير الإمام الجواد (عليه السلام).
كيف ننجو من فخ "الولاء للخونة"؟
يُقدّم الإمام (عليه السلام) في هذا الحديث معياراً واضحاً للبراءة من الخيانة، وهو: الانحياز للحق مهما كانت التكاليف، وهذا يتطلب:
رفض التطبيل للظالم، حتى لو كان ذلك يعني العزلة أو الاضطهاد.
فطبقُ الطعام الذي يجعلك تُدلي بصوتك لصالح قاتل، اليوم ستتمناه غداً وأحشاؤك تتقطع جوعاً لاختيارك الشخص غير المناسب ليحكمك.
وكذلك هي الأغطية التي تدفئك اليوم، ستُجرّدك حتى من ملابسك غداً. وغيرها الكثير من الوسائل الوضيعة، وقتها محدود، وأثرها عمراً من الشقاء.
وهي لا تقتصر على الحكام، بل هي توضيح لحياةٍ كاملة، أينما كنت: لا تأتمن خائناً، فحديثه المُفخّم وجيبه الممتلئ لن يرمي لك سوى خردة بالية لن تسدّ رمقك، بل ستحرقك بلهيب نارها يوم لا ينفع مال ولا بنون.
تحرير العقل من تبعية الأسماء الكبيرة، فكل ناطق، مهما زاد شأنه، يجب أن يُقاس بمقدار اقترابه من الحق أو بعده عنه.
وهذا ديدن الرسول وآل بيته الأطهار، حيث كان الحق هو أساس الحكم لديهم، ومن المؤكد أنهم لا يحبّون من ابتعد عن الله، سواء كان فعلاً أو قلباً.
وعلى حبّ إمامي، أنا اليوم أُحب الناس، فإن قيل: "الاختلاف في الرأي لا يُفسد للود قضية"، أجزِمُ أنه يُفسده، وأن من قاله لا يعلم أن فساد العقل يتسلل إلى القلب فيفسد وده.
لذلك، قريبي العزيز، ربما قد فسد ودي لك حينما رأيتك مؤمناً بقاتل وتُبرر على حساب الضحية، بينما قال تعالى:
(ولا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم)
فكلمتك، وعملك، وإيمانك، واتباعك... كلها أمانات، فكيف لا يفسد وُدّ الخائن لأمانته، ومنها لله ولرسوله.
وفي النهاية، حديث الإمام الجواد (عليه السلام) ليس تذكيراً بالماضي، بل صفعةً للوعي المعاصر.
إن الخيانة ليست فقط في السكين التي تُغرس في الظهر، بل أيضاً في اليد التي تمسك بالشمعة لتُضيء للقاتل طريقه، وفي اللسان الذي يُجمّل خصالاً رُسمت بالدم، وفي الأذن التي تسمع إبليس وهو يتكلم فتُصفّق، فتكون كما وصفها الإمام الجواد (عليه السلام):
"من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق ينطق عن لسان إبليس فقد عبد إبليس."
فكيف إذا كان المرء قد أكل من طعام الخونة، وشاركهم شرابهم، وسار على إيقاع كلامهم؟
ببساطة العبارة، سيكون على هذه الشاكلة:
يركع أمام منابر تنطق كلام الشيطان، بينما تُحاك الأكفان من لحم الأحياء.
فإذا كنا لا نستطيع مواجهة الطغاة مباشرة، فلنكن على الأقل غير أمناء لهم، لأن التاريخ لا يُسجّل أسماء الذين سكتوا، بل يُخلّد أولئك الذين وقفوا، ولو وحيدين، في وجه العاصفة، وقالوا:
"كفى بالمرء خيانة أن يكون أميناً للخونة."
اضافةتعليق
التعليقات