كان ولا يزال التعريف بالفكر الحسيني المناهض للطغاة مسارًا فكريًا وعمليًا ذا طابع استراتيجي يصبّ في صالح الإنسان. ولهذا السبب، تعاظمت المسؤولية على من يهمّه هذا المسار الفكريّ والعمليّ من علماء، ومفكرين، ومعنيين بتنوير الإنسانية بهذا الخط الذي يهمّ المسلمين والإنسانية جمعاء.
نعم، كل المسلمين، بل كل شرفاء العالم، يتفقون على أن الإمام الحسين (عليه السلام) يتصدر الأحرار في أي زمان ومكان، وأن مبادئه وما دعا إليه من قيم خالدة جاءت لخير الإنسان وإصلاحه، ممثلة في مقارعة الانحراف والتسلط والهيمنة الفردية على جموع الناس، واستلاب حرياتهم وآرائهم وأموالهم لصالح الحاكم الفرد وحاشيته، ولمصالحه التي لا تعدو كونها دنيوية آنية زائلة.
وفي مشهد تاريخي لا يزال موضع تأمل ودراسة، اتّخذ الإمام الحسين (عليه السلام) قرار مغادرة مكة المكرمة قبل يوم عرفة، متجهًا نحو الكوفة، تاركًا وراءه شعائر الحج وقداسة الحرم، وسائرًا نحو مصير يعلو فوق الحسابات الظاهرة. لم يكن هذا الخروج حدثًا عابرًا في جدول الوقائع، بل لحظة مشحونة بالرمزية، تتقاطع فيها القداسة مع الخطر، والإيمان مع الحكمة.
كانت مكة في الوجدان الإسلامي وما تزال موئل الأمان، وحرز الدماء، وموضع الشعائر الكبرى. وكان الحج آنذاك موسمًا تجتمع فيه الأمة وتتبادل الأخبار والمواقف. وقد كان الإمام الحسين (عليه السلام) في قلب هذا المشهد، رمزًا للشرعية النبوية في وجه استبداد الحكم الأموي، وملاذًا أخلاقيًا للمهمّشين والرافضين للبيعة ليزيد بن معاوية، ذلك الحاكم الذي استنكرته ضمائر الصحابة والتابعين لما عُرف عنه من مجون واستهتار بحرمة الدين. وكان الحسين (عليه السلام) الراعي الأول لدين جده محمد (صلى الله عليه وآله)، وهو إمام المؤمنين في عصره.
لكن هذه القداسة لم تعد ضمانًا للحصانة، فقد تسللت نوايا الاغتيال إلى جوف الحرم، كما نُقل عن الإمام قوله:
"والله، لئن أُقتل خارج الحرم بشبر، أحبّ إليّ من أن أُقتل داخله بشبر"، في إشارة إلى أن السلطة الأموية لم تكن لتتورع عن انتهاك حرمة الكعبة في سبيل القضاء على معارضتها الأخطر.
وكان الإمام الحسين (عليه السلام) يعلم أن بقاءه في مكة مع اقتراب موسم الحج قد يحوّل الكعبة إلى ساحة اغتيال، حيث كانت تقارير المراقبة تشير إلى تواجد أعين السلطة، تنتظر لحظة مناسبة لارتكاب جريمة يُراد بها قتل الجسد وإرهاب الفكرة معًا. وقد رأى الإمام أن قتله داخل الحرم لن يُسجَّل كجريمة في نظر من انغمسوا في التبرير، بل سيُتخذ ذريعة لتشويه مشروعه، وربما لتخريب قدسية الكعبة ذاتها إن تحوّلت إلى مسرح دماء.
لذا، كان خروجه حمايةً لحرمة المكان، وتحصينًا لرمزية الكعبة من أن تُستعمل كأداة في يد المستبدين.
حينها، قرر الإمام الحسين (عليه السلام) الخروج من مكة في لحظة كان فيها الناس يدخلون إليها. ترك وراءه شعائر الحج، لكنه لم يترك روحها؛ فإن كانت فريضة الحج تذكيرًا بالتجرد والتضحية، فقد اختار هو أن يكون الحج الأكبر بمفرده، ماضيًا في طريق التضحية الحقيقية.
كان خروجه قبل عرفة رسالة مضمخة بالإرادة: أن الدين لا يُصان بالشعائر وحدها، بل بالدم الذي يُراق في سبيل قيمه، وأن الكعبة بلا عدالة قد تتحوّل إلى صنم جديد يُعبد من دون الله. لهذا، فإن مسيره إلى كربلاء كان امتدادًا لمعنى الحج، لا انقطاعًا عنه؛ فقد جعل من نفسه قربانًا على مذبح الإصلاح.
ديناميكية خروج الإمام الحسين (عليه السلام): الحركية والظروف المحيطة بخروجه
لم يكن خروج الإمام الحسين (عليه السلام) من مكة عشوائيًا، بل كان ضمن حركة واعية ومدروسة، تتفاعل مع الواقع السياسي بعد تولي يزيد بن معاوية الحكم، وما أثاره من رفض واسع بسبب فسقه وظلمه. ثم جاء التهديد المباشر بعد صدور أمر من والي المدينة بأخذ البيعة من الحسين (عليه السلام) بالقوة، حتى بلغ التهديد مكة نفسها.
لم يكن خروجه هروبًا، بل حركة إصلاحية ذات أبعاد دينية وأخلاقية وسياسية. اختار زمن الخروج قبيل موسم الحج، حين كانت مكة تغص بالحجاج، لكي يبلغ رسالته لجموع المسلمين، وقرر أن يغادر قبل أن يُستغل الازدحام في قتله سرًا، وهذا جزء من الديناميكية. ولعظمة حكمته وحنكته السياسية، وبعد أن تفاعل مع رسائل أهل الكوفة التي دعته للخروج إليهم ليقودهم ضد الحكم الأموي، أرسل مسلم بن عقيل أولًا يستطلع الوضع، ما يُظهر أنه لم يكن يتحرك بلا تبصّر.
ارتأى سيد الشهداء أن يُرسل مندوبًا عنه إلى الكوفة، فوقع الاختيار على ابن عمه مسلم بن عقيل، لما توفّر فيه من مؤهلات التمثيل والقيادة. ومنذ وصول سفيره إلى الكوفة، راح يجمع الأنصار، ويأخذ البيعة للإمام الحسين (عليه السلام)، ويوضّح أهداف الحركة الحسينية، ويشرحها لزعماء الكوفة ورجالاتها.
فأعلنت الكوفة ولاءها للإمام الحسين (عليه السلام)، وعلى إثر تلك الأجواء، كتب مسلم بن عقيل إلى الإمام يحثّه على القدوم، فتسلّم الإمام الحسين (عليه السلام) الرسالة، واطّلع على التقرير السياسي، واتجاه الرأي العام، فقرّر التوجّه إلى العراق، وذلك في اليوم الثامن من ذي الحجة (يوم التروية) سنة 60 هـ.
يعني ذلك أن الإمام (عليه السلام) لم يُكمِل حجّه بسبب خطورة الموقف، لكي يُمارس تكليفه الشرعي في الإمامة والقيادة.
فجمع الإمام الحسين (عليه السلام) نساءه، وأطفاله، وأبناءه، وإخوته، وأبناء إخوته، وأبناء عمومته، وشدّ الرحال، وقرّر الخروج من مكة المكرمة. فلما سرى نبأ رحيله (عليه السلام)، تملّك الخوف قلوب العديد من مخلصيه، فأخذوا يتشبثون به ويستشفعون إليه، لعلّه يعدل عن رأيه، ويتراجع عن قراره. إلا أن الإمام (عليه السلام) اعتذر عن مطالباتهم بالهدنة، ورفض كل مساعي القعود والاستسلام.
والمتتبّع لأخبار ثورة الإمام الحسين (عليه السلام)، يجد أن هناك سرًا عظيمًا في نهضته. ويتضح هذا السر من خلال النصائح التي قُدِّمت له من قِبَل أصحابه وأهل بيته، فكلهم كانوا يتوقّعون الخيانة وعدم الوفاء من أهل الكوفة. وندرك هنا أن الإمام الحسين (عليه السلام) كان على وعي كامل بنتائج قراره، مشخّصًا لها بدقة، إلا أنه كان يتحرّك من منطلق الواجب والتكليف الشرعي.
لا سيما إذا لاحظنا أن الحرب التي حمل رايتها الأمويون، ومن سُلّطوا على رقاب المسلمين، لم تنتهِ منذ أن واجهوا خاتم النبيين، وستبقى حتى ظهور المنقذ الأعظم، الآخذ بثأر الأنبياء والأوصياء والشهداء.
ولم تكن الحرب هذه محصورة في صورة أو موقف أو زمن، بل امتازت دعاية الأمويين بالإعلام المضلّل، والحرب النفسية، والتسلل الماكر إلى قلوب الناس، وتغذيتهم بالسموم الفتاكة ذات المنظر الخادع.
كانت حربهم الإعلامية على سيد الشهداء (عليه السلام) ماكرة وخبيثة، حتى صوّروه للمغفّلين في صورة "الخارجي". وقد جهد الأمويون في تشويه صورة أمير المؤمنين وأولاده الطاهرين وأصحابهم، وقدموا أنفسهم دهاةً للسياسة، فيما نزعوا عن أهل البيت كل حنكة وفهم، وهذا بحد ذاته تضليل متعمّد.
فإذا كان هذا دأبهم مع المعصومين الذين شهد لهم الكتاب والسنة بالطهارة، فما بالك بأنصارهم والمدافعين عنهم؟!
لذا، فإن قرار الإمام الحسين (عليه السلام) بالخروج من مكة لم يكن انسحابًا، بل إصلاحًا لمنظومة فكرية منحرفة، وبناءً لمبادئ الإسلام على أسس سليمة، وارتقاءً بالمعركة من ساحة الحرم إلى ساحة التاريخ.
فلم تعد الكعبة وحدها قبلة المسلمين، بل أصبحت كربلاء قبلة لكل من ينشد الكرامة.
حين غادر الحسين مكة، لم يغادر قداسة المكان، بل حملها معه، ومضى بها إلى الصحراء، ليكتب بها آخر آياتها الحية:
أن لا كعبة يُطاف حولها، ما دام فيها من يُقتل باسم الدين، ويُصلّي على جثة العدل.
إن هذه الذكرى الإنسانية المضمخة بدماء الحسين (عليه السلام) وذويه وصحبه الأكرمين، إنما حفرت أحداثها وحيثياتها وقيمها في أنصع صفحات التاريخ، حيث الامتداد المتنامي لهذه المدرسة الحسينية التي وجد فيها الإنسان ضالته في تقويم الحياة، ومشاربها، ومساراتها الشائكة والمتداخلة.
وقد قدّم المؤمنون أنفسهم وأغلى ما يملكون من أجل هذه المدرسة، ومن أجل أن تتنامى في نهجها التربوي، الذي يهدف أول ما يهدف إليه إلى زيادة وعي الناس بحقوقهم، وشحذ هممهم على مقارعة المناهج الخاطئة من الساسة المتجبرين أو غيرهم.
اضافةتعليق
التعليقات