متى أصبح الحجاب رمزًا للغضب في الغرب؟ مع أنني لم أتمكن من تحديد أصول هذه الفكرة، إلا أنه من الواضح أن تصور الحجاب كتعبير عن الغضب لدى المسلمين كان اعتقادًا شائعًا بين الأوروبيين في القرن الثامن عشر؛ فقد اعترضت السيدة البريطانية ماري ورتلي مونتاج، التي سافرت مع زوجها الدبلوماسي إدوارد ورتلي مونتاج إلى تركيا بين عامي 1717 و1718، على فكرة ارتباط الحجاب بالغضب. ولأنهما حاولا ارتداء الحجاب خلال إقامتهما في تركيا، فقد أكّدا أن الحجاب يمنح المرأة الحرية، لأنه يسمح لها بالخروج دون أن يتعرف عليها أحد.
إلا أن فكرة "حجاب الغضب" اكتسبت دلالة جديدة في أواخر القرن التاسع عشر، مع بداية الاستعمار الأوروبي للشرق الأوسط. وكما أوضحت ليلى أحمد في كتبها، فقد زيّف المستعمرون هذا الاهتمام الجديد، ويعود ذلك جزئيًا إلى غزوهم للشرق الأوسط واستعمارهم له.
في الحقبة الاستعمارية، كان جميع الأوروبيين - رجالًا ونساءً، مستعمرين أو سائحين، فنانين، مبشرين، سياسيين، أو نسويين - جزءًا من خطاب موحّد يرى أن المسلمين يعانون من العنف في ثقافتهم الإسلامية. والدليل العقلي على ذلك، كما كانوا يقولون، هو: "لا يمكن تحسين شخصية المرأة المسلمة ومكانتها في أي بلد بتعاليم غير التعاليم المسيحية. وما دامت المسلمات يقبلن حكم القرآن أساسًا للإيمان، فلن يترددن في الاعتراف بالحياة المشوّهة التي يُحكم بها عليهن."
أُدرج الحجاب ضمن فرائض المرأة التي لا تتغير إلا قليلاً، وتشمل تعدد الزوجات، والطلاق، وحق الطلاق غير المقيد بيد الرجل. بل أصبح الحجاب كلمة تُشير إلى مجمل مظاهر تراجع مكانة المرأة، وعلامة على تراجع الشرق الأوسط نفسه. وهكذا غذّت كلمة "الحجاب" نظرة الثقافات الأوروبية الاستشراقية إلى الشرق.
لم يكن الغرب وحده هو المقتنع بارتباط الحجاب بالقهر؛ فقد تشربت النخب الوطنية الرأي الاستشراقي فيهم، حتى إنهم اقتنعوا بأنهم متخلفون، وأن نساءهم رمز للانحطاط، ولا بد لهم من اتباع الوصفات الغربية للتقدم.
"كيف صرنا نعد جزءًا من الشرق؟"
كان هذا سؤال أحد القراء، أرسله إلى مجلة "المقتطف" المصرية في عام 1888: "ألسنا أقرب إلى أوروبا من الصين أو شمال أفريقيا؟" فرد المحرر بأن من يدرسوننا يسمّون أنفسهم "المستشرقين". ولكن هذا التشكك لم يدم لديه، فبعد ذلك بخمس سنوات، عندما تعرف شخصيًا على بعض كبار المستشرقين في عصره، صار المحرر أقرب إلى قبول صورة "شرق المستشرقين" عن ذاته، إذ نراه يقول: "نحن من أنزلنا أنفسنا هذا المنزل؛ فثمة شيء واحد يجمعنا كلنا في الشرق: مجدنا القديم وتخلفنا الحاضر".
وصار خلع الحجاب أولوية ملحّة لدى النخب التي تسعى "للحاق بالغرب". وهكذا صار الحجاب رمزًا قويًا لتقدم أي أمة أو تخلفها. ولما كانت الطبقة العليا هي التي تقود حركة "التحديث"، كان الخطاب المناهض للحجاب في حد ذاته هجومًا على الطبقات التي ظلت محافظة على الحجاب ودلالته الرمزية القديمة (أي رمزًا للورع والثراء والمكانة العالية).
وأحدث الخطاب المعادي للحجاب صدعًا بين أبناء الأمة الواحدة: النخب المتطلعة غربًا، وآخرين ممن يقبلون ثقافة المستعمر ويستفيدون اقتصاديًا واجتماعيًا من الاستعمار، في مواجهة الباقين جميعًا من الطبقات الدنيا، وشيوخ الدين المتمسكين بالتراث، وغيرهم ممن يعانون جراء الاستعمار ويرفضونه.
وعلى ذلك، فإن فكرة "الحجاب قهر" وليدة الهيمنة، أو على الأقل الرغبة في الهيمنة، وإن أي نقاش يطرح فكرة أن الحجاب رمز لقهر النساء يعتمد - على نحو صريح أو خفي - على الخطاب الاستشراقي والاستعماري بشأن الحجاب. وربما يفسر ذلك روح التقاتل التي تصاحب المناظرات الفكرية حول الحجاب، فالحجاب، كما تقول ليلى أحمد، ظل يحمل شحنة الدلالات الاستشراقية منذ عصر الاستعمار. وتعكس المواجهات الحالية بشأن الحجاب في العالم الإسلامي أشكال الانقسامات الطبقية والثقافية نفسها.
النظرة والحجاب
ما ينبغي أن نبرزه بشأن خبرة العالم في العصر الحديث بوصفه "معرضًا"، هو الأولوية التي تُمنح لفعل النظر: "نحن الآن شعب موضوعي، نريد أن نضع كل شيء بحوزتنا في صناديق زجاجية، ثم ننظر إليه ما وسعنا النظر"، هكذا قالت صحيفة التايمز في صيف عام 1851 بمناسبة "المعرض الكبير".
يقول تيموثي ميتشل إن هذه هي خبرة "الموضوعية" الحديثة، وهي الشعور بقدرة الفرد على أن ينظر من مكان عالٍ ويرى العالم من موقع محايد. وزوار أوروبا من الشرق الأوسط كثيرًا ما علقوا على نزوع الأوروبيين للحملقة فيهم. فرفاعة الطهطاوي، الموظف والمبعوث المصري الذي قضى خمس سنوات في باريس في عشرينيات القرن التاسع عشر، وجد من الضروري أن يفسر هذا النزوع الأوروبي للحملقة، ومستمعوه من مواطنيه كانوا في حيرة، لأن ثقافة الشرق الأوسط كانت تؤمن بـ"عين الحسود" (أي قدرة النظرة على إحداث الأذى).
يقول الطهطاوي، وهو يناقش عادات الأمم المختلفة وأخلاقها في كتابه الصادر عام 1834، إن أحد معتقدات الأوروبيين أن النظرة لا تأثير لها.
ماذا يحدث إذًا عندما يواجه الإنسان عالمًا يرفض "النظرة"؟ فالنظرة تقتضي، من وجهة نظر الحداثة، أن ترى ولا تُرى، وأن يعرض أهل البلد أنفسهم وكأنهم مشاهد في معرض. وليس من العسير أن ندرك فورًا قدر إحباط الزائر الأوروبي عند وصوله إلى الشرق الأوسط، حيث تغطي النساء وجوههن بالحجاب؛ فالنساء لا يعرضن أنفسهن كقطع في معرض. وكذلك البيوت التي يعشن فيها، فالنوافذ المطلة على الشوارع كانت مزودة بـ"مشربيات"، ولم يكن تقليد الفصل بين الرجال والنساء يسمح بتلك الرؤية.
فقد كانت النساء المحجبات يخرقن كل قواعد مفهوم "العالم معرضًا": كن بعيدات عن العيون، يرين ولا يُرَين، ولم يكنّ صورة يمكن قراءتها. كن كائنات يحيط بهن الغموض، يرفضن عرض أنفسهن أمام الزائرين. وأرى أن ذلك سبب رئيسي في الحملة الأوروبية على الحجاب.
وصل الأوروبيون إلى الشرق الأوسط تملؤهم الثقة باعتلاء ذروة الحضارة، ولكن تلك الثقة اهتزت بمجرد وصولهم إلى هذه البلاد. فكيف لإنسان أن يكون "أعلى"، إن لم يكن الآخر قابلاً لأن يُرى؟
اضافةتعليق
التعليقات