في زمنٍ تطغى فيه المادّيات على القِيَم، وتُقاسُ الحياةُ بمقاييس الثراء والجاه، تبرز كلمات الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في «نهج البلاغة» كنبرةِ حكمةٍ تُعيد التوازنَ إلى مفهوم السعادة والإنسانية. ففي الحكمة ١٤٧، يخاطب الإمامُ تلميذَه كُميل بن زياد بكلامٍ يُجسّد صراع الإنسان بين العلم والجهل، وبين الحقّ والضلال، وبين الخلود والفناء. هذه الحكمة ليست مجرد نصٍّ تاريخي، بل هي مرآةٌ تعكس أزمات الإنسان المعاصر، وتطرح حلولاً روحيةً وعقليةً لمعضلات الوجود.
تصنيف الناس... بين العقل والغريزة
يبدأ الإمام (عليه السلام) حديثه بتصنيفٍ دقيقٍ للناس إلى ثلاث فئات:
العالِم الربّاني: وهو مَن يمتلك معرفةً متجذّرةً في القلب، تجمع بين العلم النافع والعمل الصالح، فتصبح حياته تجسيداً للحكمة الإلهية.
المتعلّم الساعي للنجاة: وهو طالبُ العلم الذي يسير على طريق الحقّ، لكنه لم يبلغ بعدُ مرحلة النضج الروحي الكامل.
الهَمَج الرعاع: وهم الفئة التي تتبع كلَّ ناعقٍ بلا وعي، كالقطيع الذي ينساق وراء الصيحات والرياح، دون بصيرةٍ تُرشده أو مبدأٍ يُمسك به.
هذا التصنيف ليس إدانةً للجاهل، بل دعوةٌ للتفريق بين مَن يسعى لإصلاح نفسه ومَن يستسلم لغرائزه.
العلم والمال... صراع الخلود والفناء
يضع الإمام (عليه السلام) العلمَ والمالَ في كفّتَي ميزانٍ ليُبرز الفرقَ الجوهريَّ بينهما:
العِلم:
حارسٌ للإنسان: يحميه من الضلال، ويُبقيه في مأمنٍ من تقلبات الزمن.
يزداد بالعطاء: كلما أنفقتَه نمى، وكلما علّمتَه انتشر نورُه.
يخلّد صاحبَه: "العلماء باقون ما بقي الدهر".
المال:
عُرضةٌ للزوال: "تنقصه النفقة"، ويفنى بفناء صاحبه.
عبءٌ على صاحبه: يحتاج إلى حراسةٍ دائمةٍ من السرقة أو الضياع.
هذه المقارنة تُذكّر الإنسانَ بأن الاستثمارَ في العلم هو الطريق الوحيد لبناء إرثٍ لا يفنى.
العلماء الزائفون... خطرٌ يُهدّد الدين والدنيا
يحذّر الإمام (عليه السلام) من فئتين خطيرتين تُشوّهان مفهومَ العلم:
المنتفعون بالدين: مَن يستغلّون العلمَ لتحقيق مكاسب دنيوية، فيحوّلون الدينَ إلى سلعةٍ تُباع في سوق المصالح.
الضعفاء فكرياً: مَن يتبعون الحقَّ بلا فهمٍ راسخ، فيسهل إرباكهم بالشبهات، كـ"مَن ينقدح الشكُّ في قلبه لأول عارض".
هؤلاء يُشبّههم الإمام بالأنعام السائمة: يعيشون بلا عقلٍ يُدرك، ولا قلبٍ يشعر، ولا هدفٍ يسمو فوق الشهوات.
حملة المشعل... كيف يبقى الدين حيّاً؟
يؤكّد الإمام (ع) أن الأرض لا تخلو من حججِ الله، سواء أكانوا:
ظاهرين: كالأنبياء والأئمة (عليهم السلام).
مغمورين: كالعلماء العاملين في الخفاء، الذين ينقلون العلمَ إلى الأجيال.
هؤلاء هم "الأقلّون عدداً، والأعظمون قدراً"، يُحيون الدين ببصيرتهم النافذة، ويضحّون بالدنيا لتُعلَّق أرواحهم بالمحلّ الأعلى. هم مَن يُعيدون للإنسان معناه الحقيقي: خليفةُ الله في أرضه.
العِلم... طريقُ الخلود في عالمٍ يفنى
كلمات الإمام علي (عليه السلام) لكميل بن زياد ليست نصّاً من الماضي، بل هي صرخة تُنذرنا من غفلة العصر: إن السبيلَ الوحيدَ لمواجهة طغيان المادّة هو إحياء القلوبِ بالعلم النافع، والارتقاء بالإنسان من مرتبة "الهمج الرعاع" إلى مصافّ "العالِم الربّاني".
فالعِلم – كما أراده الإمام – ليس معلومات تُحفَظ، بل نورٌ يهدم ظلماتِ الجهل، ويبني حضارةً تقوم على العدلِ والحكمة.
أما نحن، فالسؤال يبقى: هل نختار أن نكون أوعيةً خيراً للعلم، أم نبقى أرقاماً في قطيعِ المادّيات؟!
اضافةتعليق
التعليقات