في أول أيامها في الجامعة الأمريكية في قلب مدينة نيويورك الصاخبة، وبينما كانت تستعد لحضور حفلة التعارف الخاصة بالطلاب الجدد، وجدت نور نفسها في دوامة من الارتباك. مع أنها ليست وحدها التي قُبلت في هذه الجامعة حديثًا، فقد كانت زميلتها زهراء معها بعد حصولهما على منحة دراسية مجانية في هذه المدينة البعيدة كل البعد عن واقعهما السابق. كل شيء فيها مختلف؛ من أسلوب التحية إلى طريقة الحديث، وحتى ثقافة الحوار.
شعرت في حفل التعارف الذي أُقيم في حديقة الجامعة بثقل النظرات التي تتجه نحوها، وكأن كل من حضر هذا الحفل من طلاب وطالبات ينظر إليها بنظرات لم تدرك كنهها. ولاحظت أن هناك من بدأ يهمس متسائلاً عن معنى وجود طالبتين مختلفتين عنهم في كل شيء، من الحجاب إلى قلة الكلام والانزواء بعيدًا عن الحضور. وبدت نور تتفحص الوجوه وترى الابتسامات المبطنة والسخرية في نظرات الجميع، مما زاد إحساسها بالعزلة. ثم ليكسر ذلك الإحساس، تقربت منها الطالبة آنا موجِهةً لها عبارات ترحيب مقتضبة، فردت نور على ترحيبها بعفوية. كانت آنا الطالبة التي تزاملها في القسم والقريبة منها في السكن.
بدأت رحلتها الجامعية بمزيج من الخوف والإحساس بالغربة، لكن حماسها المعروف وعزيمتها على النجاح كانت أقوى من كل التحديات التي واجهتها. مع أن الأجواء كانت إيجابية لحد الآن، إلا أنه مع مرور الوقت بدأت تشعر بمضايقات من آنا، فتوترت العلاقة بينهما بعد أن أعلنت آنا استغرابها من معتقدات نور وصديقتها زهراء. فأخذت تضايق كل منهما بطرق غير مباشرة، وسخرت أول الأمر من حجابهما، وطرحَت عليهما أسئلة جارحة عن معنى الحجاب والصلاة والصوم في شهر رمضان، مستغربة: "لماذا على الإنسان أن يعذب جسده بالصوم بينما كل شيء بين يديه؟" وأظهرت آنا استياءً من رد نور: "ما سألتكِ يومًا عن أزياء وخرافة عيد الهالوين، لكن للصوم فوائد عدة، إضافة إلى أنه ركن من أركان الإسلام."
إلا أن آنا كانت تُظهر لهما في كل مرة أنها تمزح، وتذكرهما بأنهما في بلد ديمقراطي يتيح للفرد حرية المعتقد الديني ولا يُجبر أحدًا على فعل شيء لا يتقبله. ثم قامت بأكثر من ذلك، فبالمزاح أيضًا قامت بمقارنة غير لائقة بين الديانة الإسلامية وبقية الأديان بطريقة جعلت نور تشعر بالإهانة. رغم قسوة ما مرت به، ظلت نور صامدةً، تزداد تمسكًا بدينها وسلوكها القويم، كأنما المحن زادت جذوة إيمانها تأججًا. قررت حينها أن تواجه الأمر بحزم مع عدم الرغبة في تصعيد الموقف، فلجأت إلى إحدى مدرساتها وشرحت لها الموقف، وطلبت منها المساعدة في معالجة الوضع. فاستجابت المدرسة لطلب نور على الفور، وطلبت من آنا الاعتذار عن تصرفاتها تلك، ونبهتها إلى أهمية احترام الاختلاف وعدم إثارة النعرات داخل الحرم الجامعي، وإلا ستعاقب أشد العقاب.
مع نهاية الأسبوع، بدأ المطر يسقط مدرارًا على مدينة نيويورك، كأنما انشقت السماء لتتحرر الغيوم من قيودها، وانهالت الأمطار الغزيرة مصحوبة برياح باردة، مُعلنة قدوم عاصفة شتوية مفاجئة. عادت نور وزهراء إلى السكن الجامعي مبللتين بعد يوم طويل متعب في الجامعة. وبينما كانتا تعدان مشروبًا دافئًا للتخفيف من شدة البرودة التي أصابتهما في الخارج، سمعتا صراخًا من الغرفة المجاورة، حيث تقطن آنا وزميلتها. فهرعتا نور وزهراء إلى الغرفة المجاورة بسرعة، فوجدتا آنا تئن وقد أصيبت بحمى شديدة، وجسدها يرتجف، وبان على وجهها الاصفرار والتعب الشديد، مستلقية على السرير كالشبح.
حاولت زهراء إقناع نور بعدم التدخل، مذكرة إياها بتصرفات آنا السابقة، لكن نور هبت مسرعةً إلى العيادة القريبة من السكن الجامعي وجلبت لها الدواء، وسهرت على راحتها طوال الليل. وعندما استفسرت زهراء عن سبب فعل نور ذلك، أجابتها نور والابتسامة على شفتيها: "يا عزيزتي، إنما الإنسان يعمل بأصله وبما هو مجبول عليه. العلاقة بين القلب والعقل كوعاءين للمعرفة والنور، ونحن نتبع خطى أمير المؤمنين في حسن التعامل مع الناس."
هزت زهراء رأسها بأسى، بينما واصلت نور حديثها عن قصة الإمام علي مع جاره النصراني، الذي كان يعامله بجفاء وتحفظ بسبب اختلاف الدين. ومع ذلك، لم يرد الإمام الإساءة بالإساءة، بل استمر في معاملته بكل احترام ورفق.
وفي أحد الأيام، أصيب الجار بمرض شديد ولم يكن هناك أحد يهتم به. وعندما علم الإمام علي بمرضه، لم يتردد في زيارته، وجلس بجانبه، واعتنى به، وأحضر له الطعام والشراب. لم يكن الجار يتوقع هذا التصرف من الإمام الذي لم يتلق منه سوى الجفاء سابقًا. تأثر الجار بشدة بأخلاق الإمام، وسأل نفسه كيف يمكن لرجل مسلم بمكانة علي أن يظهر هذا القدر من التسامح والرحمة تجاهه رغم كل ما حدث بينهما.
وبعد تفكير عميق، أعلن الجار إسلامه متأثرًا بأخلاق الإمام السامية، وأدرك أن الإسلام يدعو إلى حسن المعاملة والرحمة. قالت زهراء بتهكم: "أتظنين أنكِ قادرة على تغيير أفكار هذه المتعجرفة؟!" هزت نور رأسها نافيةً، لكنها سرعان ما أبدت أسفها ووافقتها على عملها. وما إن لاح خيط الفجر حتى استسلمت آنا لنوم عميق، لتستيقظ على عذاب نفسي أكبر جراء تعاملها السيء مع زميلتيها.
اعترفت بخطئها تجاه نور وزهراء بعد ما رأته بأم عينها من عناية وسهر نور على راحتها أثناء مرضها، وقررت آنا أن تأخذ خطوة إيجابية لتعزيز الفهم المتبادل بين الطلاب، مدركة أن الجامعة تجمع تحت سقفها طلابًا من مختلف الجنسيات والخلفيات الثقافية. بدا التغيير واضحًا على آنا؛ غيرت من تسريحة شعرها، ومسحت بعض الوشوم الظاهرة على ساعدها الأيمن. كان صديق آنا يلاحظ ذلك التغيير الذي بدا واضحًا عليها، خاصة بعدما أصبحت لا ترغب بلقائه لأنها تأثرت بأخلاق نور وزهراء وعدتهما مثالًا لها في حسن الأخلاق. وبدأت تأخذ الخطوات الأولى الصحيحة في منهج حياتها الذي كان مضطربًا كل الاضطراب.
فصب جم غضبه على الفتاتين، وقام بشتم نور والاستهزاء بها بسبب ارتدائها الحجاب. حاولت نور تهدئة الموقف وتوضيح الأمر لهذا الطالب المتعجرف، وأنها لا تفرض دينها وعقيدتها على أحد، إلا أن الطالب لم يعر ذلك أدنى انتباه، وبدأ يصرخ لجذب انتباه الطلبة إليه، ثم باغتها على حين غرة وسحب حجابها عن رأسها وسط الحرم الجامعي.
لم تكن آنا بعيدة عن الموقف الذي تحول فيه صديقها إلى وحش كاسر في عينيها، وهي تتقدم منه شيئًا فشيئًا لتسأله عن سبب فعلته المشينة تلك، إلا أنه تجاهلها سادرًا في غيه، محاولًا إبعادها بيده قائلاً: "وما دخلك أنتِ؟!" فتمالكت آنا نفسها، وردت عليه بصفعة على خده. انتبه لها الجميع، ليعم بعدها السكون.
اضافةتعليق
التعليقات