ميثم التمار، ذلك العشق الذائب في علي بن أبي طالب، تهيم روحه بولائه، ويتجرع الذُّعاف في سبيله، وكلّه إيمانٌ مطلق بمسيرته ومنهجه. "هو أبو سالم، مِيثَم بن يَحْيَى النَّهْرَوَانِيّ بالولادة، الأَسَدِيّ بالولاء، الكُوفِيّ بالسكن، المعروفُ بمِيثَم التَّمَّار؛ لبيعه التمرَ بالكوفة".
في مسار التضحية تتقلّب وجوه التقوى، وتُذبح أنفاسها نقاءً على ألّا تترك نهج السلام والجهاد في سبيل الإمامة والنبوة. إنها حناجر لم تلتذّ إلّا بمذاق الحديث والرواية، وشِعر الصدق، ولم تغفُ إلّا على نسائم وأريج القلم العلوي.
السلام عليك يا ميثم التمار، لقد أحسنتَ البطولة، ومقاومة الضلال والأذى، وأنت تعيش الكفاية من الحياة، فآليتَ ألّا تُهنّئ نفسك إلا بشهادة قد نُصّت بحقك من أفواه البيت النبوي، وبعناية غيبية.
ازدحمت طرق الجُمل ومعانيها في ذكرك، وتسابقت إلى دكة فدائك لتنثر الوَفِير من إحسانك غَدَقًا، وتضمنت الكتب مواقفك افتخارًا وعددًا. في عهد المسير ومقاومة الظالمين، يهتم النفس الشيعي برسم نهجه المقاوم، بالاعتماد على الخُلَّص والصفوة من الأصحاب في زمن القيد والحديد الذي لا يرحم. وقد تشبّعت عقولهم استقامةً ومعرفة لا يمكن أن تنحرف عن جادة اليقين.
دوره وخدمة المذهب
فلقد كان أحد الشخصيات البارزة المعتمد عليها في شرطة الخميس في عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، من الذين تأبّطت ذراعهم قوة ومصداقية وتيمنًا لخدمة أميرهم وقائدهم عليٍّ (عليه السلام).
فلم يلفظ قولًا ولا يعتدّ بموقف دون دراية وتأييد من قائده أو إشارة منه لتصديق ما يقدم عليه. إن إدارة كل مجتمع تحتاج إلى شخصية تتحلى بصفات القوة، والصبر في الشدائد، ونفاذ البصيرة، وتحمل مشاق الطريق، واستيعاب كادره لفهم الرسم البلاغي وسط أمة تفشّت فيها هلوسة النظام.
لذا من المهم جدًا، وسط هذا التفاوت، أن يتحلى المتصدّي بعدة صفات، من الأولى أن تجتمع فيه، لمواجهة الظلم والضلال. وبما أن الدعوة هنا منوطة بخطة تستدرج العقل وتتحكم بالقلب، لذا يُحتَّم على حاملها أن يستوعب الظروف، كانت أو سوف تكون.
مواقفه لأهل البيت
إن ومضة الاقتدار التي تحلّى بها الصحابي الجليل ميثم التمار، هي من إشعاع مفاهيم البيت العلوي وعظيم اهتمامهم، ومن تجلياتهم الغيبية، حتى ترك أثرًا بليغًا في نفسه وعلوّ شأنه.
كان ميثم كثير التبليغ لفضائل أهل البيت وفضح بني أميّة. قيل لابن زياد: "قد فضحكم هذا العبد!" فقال: "ألجموه!"، فكان أول خلق الله يُلجم في الإسلام، ثم أمر ابن زياد بصلبه ثم قتله.
وكان من شأنه ومقاماته، أنه خُصّ من قبل الإمام علي (عليه السلام) بعلم البلايا والمنايا، وأخبره بمكان قتله وكيف يُقتل، ودلّه على النخلة التي يُصلب عليها، تقول الرواية:
قال: «يا ميثم، لك ولها شأنٌ من الشأن»، فكان ميثم يأتيها ويُصلي عندها، ويقول: «بوركتِ من نخلة، لكِ خُلِقتِ، ولي غُذّيتِ»، ولم يزل يتعاهدها حتى قُطعت، وحتى عُرف الموضع، ولها حكاية يطول شرحها في هذا المقام.
شهادة التكوين بحقه
كان ميثم التمار من حواريي أمير المؤمنين، ومن أصحابه المقربين، وله مواقف قاضية ضد عبيد الله والي يزيد (لعنهما الله) في الكوفة. وقد سماه "العتل الزنيم" في وقفة جدارة يذكرها التاريخ حصرًا.
وكان من الذين اهتموا بتفسير القرآن وتأويله، وكان من متكلمي الكوفة وخطيبها، حتى أنه قال لابن عباس:
"سلني ما شئت من تفسير القرآن، فإني قرأتُ تنزيله على النبي، وعلّمني أمير المؤمنين تأويله".
وقد شهدت على ذلك أم سلمة (رضوان الله عليها) زوجة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، أن الحسين (عليه السلام) كان كثيرًا ما يذكره، لعظم قربه من أهل البيت عليهم السلام.
وقد ذُكر في "الغارات":
كان ميثم عبدًا لامرأة من بني أسد، فاشتراه علي بن أبي طالب منها وأعتقه.
وقال له: «ما اسمك؟»، فقال: «سالم»، فقال: "إن رسول الله أخبرني أن اسمك الذي سمّاك به أبوك في العجم ميثم"،
فقال ميثم: «صدق الله ورسوله، وصدقت يا أمير المؤمنين، فهو والله اسمي»، قال: "فارجع إلى اسمك، ودَعْ سالمًا، فنحن نكنّيك به".
هكذا هم بيت النبوة، قولهم واحد، اختيارهم صائب، ودعوتهم لا تتكرر، فهي الوتر في الخالدين.
ميثم والبراءة
إن البراءة من أعداء علي وآل علي (عليهم السلام) فخرٌ من المفاخر، وشرطٌ لقبول الأعمال، والإقرار بها يعني المواجهة، والقوة، والدافع الروحي لمن يوالي عليًّا عليه السلام.
وهي الطاعة الكبرى لله ورسوله ووصيّه، وقد جرت الدواهي على هذا المبدأ، ومن تكلّم به إلى يومنا هذا. وقد كلف هذا المبدأ رجالات التاريخ من أهل الذكر والمواقف الصادقة لأهل البيت الكثير الكثير.
وقد عدّها الله من أفضل الأعمال، أهمها وأرفعها درجة عند المصائب. البراءة تعني الاستقامة، والفداء، والتضحية دون تردد أو ضعف، وإن من يُقتل على التولي والتبري يعلو الشاهقات في الدنيا والآخرة.
البراءة تعني عدم المصالحة أو المصافحة مع كل ظالم، ورفض أي تطبيع معه، كما كان ميثم التمار يتبرأ من أعداء الولاية في حضورهم، ويلعنهم لعنًا وبيلاً، كما فعل مع عبيد الله بن زياد، حين طلب منه الأخير أن يتبرأ من علي بن أبي طالب...
وهذا مبدأ كل شيعي يعتقد بولاية علي بن أبي طالب.
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
"قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم".
وقد وعدها علي بن أبي طالب (عليه السلام) حوارييه وأصفياءه من أصحابه، وأن لهم مقام المجاورة له في الآخرة.
وقد ذُكر في "الخصائص":
قال ميثم: "دعاني أمير المؤمنين، وقال: (كيف أنت يا ميثم إذا دعاك دعي بني أمية، عبيد الله بن زياد، إلى البراءة مني؟) فقلت: يا أمير المؤمنين، أنا والله لا أبرأ منك، فقال: (إذًا والله يقتلك ويصلبك)،
قلت: أصبر، فذاك في الله قليل،
فقال: (يا ميثم، إذًا تكون معي في درجتي)".
هكذا يُخلّد التاريخ رجالات العلم والمعرفة، ومن هم الصادقون في موالاتهم أهل البيت، وذات الشرع وبيت العصمة، فهم كما قال القرآن الكريم: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ بحق الرسول، أي بعلي بن أبي طالب،
كذلك من أُدرِج اسمه من الصفوة مع علي يكن مرفوع الذكر، وقد نُقشت لهم السماء في الجنان بيوتًا فارهين بجوار أعمدة النور: محمد، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين (عليهم السلام). قُتل ميثم في الثاني والعشرين من ذي الحجة سنة 60 هـ، أي قبل وصول الحسين إلى كربلاء بعشرة أيام.
سلام على روحك الطاهرة أيها الصحابي الجليل.
اضافةتعليق
التعليقات