قبل أن تلتقي الأجسادُ بدنيا الجمال، تتهامس الأرواحُ في عالم النور، حيث لا حواجز من زمنٍ أو مكان، ولا قيودَ من لونٍ أو جنس. هناك، حيث يسكنُ الحبُّ الأزلي، وتتراقصُ الطيور على موسيقى الإيمان النقي، فتتعانقُ الأرواحُ قبل أن تتناسل في سلالات البشر، لتطلَّ ذاكرةُ القلبِ باحثةً عن شظيتها الضائعة، عن ذلك النورِ الذي فارقها يوم خُلقت.
وما إن تطأ الأرضَ تلك الأنوارُ، يرتفع صوتُ الملائكةِ مهلِّلًا: إنّ نور الله سيكتمل في الدنيا. فلا يكون اللقاءُ صدفة، بل تحقيقًا لوعدٍ قديم، ووفاءً لعهدٍ سُجّل في اللوح قبل أن يُخلق الزمان.
وهذا هو سرُّ "زواج النورين"، ذلك الارتباطُ المقدّس الذي لا يجمعه مجردُ عقدٍ دنيوي، بل اتحادٌ روحيٌّ يسبقُ الأيامَ والليالي. اتحادٌ نتج عنه الأنوار المحمدية، وذروةُ القوة العلوية، فكانت كلّها في روح حيدرة، ومهجةُ أحمد هي فاطمة النقيّةُ، التقيّةُ، الصدّيقةُ، الطاهرةُ.
روحُ حيدرة ليست مجردَ امرأة، بل هي شعلةٌ من نورٍ سُجّلت في سجلّ الأقدار لتكمل نصفَ روحٍ أخرى. إنها تلك التي يحمل قلبُها بصمةَ روحٍ عظيمة كروح الإمام علي (عليه السلام)، فلا يصلحُ لها إلا مَن يحملُ في أعماقهِ النورَ ذاته، والقدرةَ على فهمِ لغتها الصامتة.
هي رسالةٌ حيّة حتى يومنا هذا:
"إنْ كونوا فاطمة، يهدِكم اللهُ حيدرًا." وفي لحظات الفرح والحبّ هذه التي تزورنا، يدقّ مؤشرُ الإدراك:
إنْ لم تكنْ كفاطمة، فكيف ترجين حبَّ علي، وعطفَ وليّ، وتوفيقَ إلهٍ قال:
"وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا، وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ."
فما هذه المودّةُ إلا نتاجُ طريقٍ مستقيم، يعلم صاحبُه من الله، وكيف يُرضي الله، وما هي أحبُّ الأشياء إليه.
فالمودّةُ حلالٌ كاملٌ لا تشوبه شائبة، على عكس زماننا هذا الذي قدّم صورًا مشوّهةً للحب، فضاع الشبابُ بين أن يكونوا نورًا، أو شبهةً تسير على الأرض، محوّلةً الحبَّ إلى سلعةٍ، والزواجَ إلى صفقةٍ.
تُختبَر الأرواحُ في محكمةِ الاختيار:
فكم من شخصٍ يظنّ أنه يختار، وهو في الحقيقة يُختار، وكم من قلبٍ يُغلَق أمام نورٍ كان مُقدّرًا له، فقط لأنه سارَ عجولًا لاكتساب صفةِ الحب، دونما النظر إلى جوهره، لأنه يبحث عن معاييرَ ماديةٍ لا تُغني عن لغةِ الروح.
فيصبحُ الاختيارُ معادلةً صعبةً:
بين ما يريده القلبُ، وما يفرضه العقلُ، بين نداءِ الروح، وضجيجِ المجتمع.
لكنّ "زواج النورين" يذكّرنا بأنّ الحبَّ الحقيقي ليس قرارًا عقلانيًّا بحتًا، بل هو استجابةٌ لنداءٍ قديم، التقت فيه الأرواحُ قبل الأجساد.
فإذا كنتَ تبحثُ عن "روحِ حيدرة"، أو كنتِ تنتظرين مَن يُكمل نورك، فاعلمي أن المعيارَ الحقيقي ليس في المال ولا الجاه، بل في ذلك الشعورِ العميقِ الذي يُخبركِ:
"هذا هو الذي عرفني قبل أن أعرفه، وهذا هو الذي سمعَ صوتَ قلبي قبل أن أنطق."
هذا الذي اختاره الله لي، وما اختيارُ الله إلا نورٌ يُضيءُ الروح، ويُحيي الجسد، ويقوّي النفس. أما دونه، فهلاكٌ لا محالة، وندمٌ على مرّ الأجيال.
وفي النهاية، "زواج النورين" ليس مجرّد قصةٍ من الماضي، بل هو درسٌ لأولئك الذين ما زالوا يؤمنون بأن الحبَّ أقدسُ من أن يُقاس بكلامٍ عابر، أو غزلٍ عاثر، أو تلك الكذبةِ المسماة بالعلاقاتِ المحرّمة.
إنه رسالةٌ بأن الأرواحَ لا تموت، ولا تنسى، بل تظلّ تبحثُ عن شريكها حتى في زمن الضياع. فقد قُدّر لها أن تلتقي على قدر نواياها:
فكان لخديجةَ محمدٌ خيرُ الرسل، ولفاطمة الزهراءِ الكرّارُ حيدرة، ولشاه زنان، حُسينٌ، ومنها إلى زهرةِ الحسن: فاطمةُ زين العابدين، وروحُ الأئمةِ المعصومين،
ولأمِّ فروة: فاطمةُ باقرِ العلم، الشبيهِ، الشاكرِ، الأمين، وهديةُ الله: لحميدةَ الصادق، الفاضلِ، الكافل، وزاد كرمُ الله ليشمل الجليلةَ نجمة، فرزقها حبَّ زوجها الطاهرِ الحليم الكاظم، ثم انتقلت روحُ فاطم في صفات سبيكة النوبية، ليهبها الله حبَّ أنيسِ النفوس، وسلطانِ القلوب، الرضا، سراجِ الله، ونورِ الهدى. وعن تلك الأنوار، أراد الله أن يكتمل نورُ سمانة المغربية، فرزقها قربَ الجواد التقي، وبابِ المراد.
فهل بعد رزقِ الله واختياره الحسن، يتمنى الإنسانُ شيئًا؟
فكما رزق السيدةَ حديث ودَّ الإمامِ الطيّبِ المؤتمن الهادي، شاء اكتمالُ نورِ نرجس بقربها من الصمتِ المرشدِ الحسن العسكري (عليهم السلام أجمعين).
فمن نورٍ إلى نورٍ، ننظر نحن إلى نجومِ الله: في سيرتِهم، وكتابِه في لسانهم، ودليلِه القاطع: إنه لن يختارَ للإنسانِ إلا خيرًا.
فكنْ هُنَّ المؤمناتِ بثوبِ فاطم، فوهبهنّ ذريةَ حيدرة. لذلك، فليكن اختيارُكم نورانيًّا، وليكن لقاؤُكم كلقاءِ الأرواح في عالم الذر، حيث لا غشّ ولا خداع، بل حقيقةٌ تُضاء بنورِ القلوبِ قبل الأجساد.
اضافةتعليق
التعليقات