إن البيعة الغديرية لها مفهومها المعرفي، فهي عامود المبدأ وجوهر المنهج، ووطن اللغات المتفرقة؛ فكل بيعة تتكلم بلغتها ولسان ثقافتها، حتى حروفها لها قالبها ومعناها الخاص بها.
إلا أن بيعة الغدير لها مفهومها التكويني، وذوقها المنهجي المعتدّ به. في طاعة التراث النبوي، يحتضن الحرف نثار الأفكار الصادقة، وعليها فإن المنهاج هو وهج التحرك في الحياة.
تستغيث البشرية فيها ليحميها جناح النبوة، من التراث العابث، وبناء سدٍّ شاهقٍ يلجم كل المتغيرات بثابتة الدلائل الواضحة. إن في التأريخ عكّازًا أشبه بالسيف، يحفظ النسائم من الالتهاب، ويعالج مقدراته من الاعتباط، فكانت جمله عرشًا لا تكيل أهدافه، ولا تميل مع الساهيات، بل تجعل نفوذها غذاءً لكل نقيصة في منهج مبعثرة في تقدم وانحطاط أفكار السهو... وأفق لا ينتهي مداه.
نحن نؤمن أن كل فكرة غيبية لها ولاية متلازمة بالنبوة، وأن وتر الروايات قد انغمست بماء الفرات، حتى كان الكوثر منهل العطاشى، ولكل من أصاب بصيرته العاتيات.
ومن الغدير ابتدأت حكاية المواجهة، وقد نُسج للتاريخ قصة تُفصح عن دواخل الأصحاب، بعضها همس معاكس، يافطة حبّه الخبث والمؤامرة، يتناوب الضحكات من هنا وهناك، وفي نفسه المتوهجة نارٌ قد صُلِيَت من رمال الغدير هجيرها، تعانق الرذيلة أنفاسها، أصرّت على قتل الغيب وتعميم الشر في كل البلاد، حتى بدأ العذاب...
كم هي المسافة قريبة، بين غدير الوفاء وبين ماء الفرات! قد قرّبها المدى والتكوين، وبدت مشاعرها تلفّ أعناق الذاكرين، وقول: (لقد قاتلناك بُغضًا منّا بأبيك) شعار الحرب الشعواء، وقد ألقت أثقالها وبانت أهدافها في شمس الغدير، لترضي أعوان إبليس، وتُشرّع قصة لذبح الماء.
إن الغدير منصة الثائرين، ومنارٌ ومنبرٌ لكل من اهتدى من العابدين، وحضارةٌ تحدّت بأفكارها فهم الأجيال، لكي تحيا الأمهات على مضغة الصلاة والطاعة وتربية أجيال التدهور، ومضخات الرحمة العلوية تُشاور أذُنَ التاريخ وتحذّره من الانحراف، حتى بات شعارها ثابتًا في سماء الغدير إلى يومنا هذا:
(من كنت مولاه فعليٌّ مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه).
وبات الاحتفال به شكرًا لله ولرسوله ووليه، وإثارة لذاكرة التأريخ، وتجليات مطلقة لمضامين الخير والصلاح. عيد الغدير فريضة، يوم إكمال الدين وتمام النعمة بشخص علي بن أبي طالب، والقرار الذي أتمّه الله سبحانه على يد سيد الأوصياء، ومنصةٌ يزدهر فيها العطاء اللامحدود، لسدّ ثقوب الطريق من الزائفات.
هو قرارٌ تكوينيٌّ أودع البهجة في قلب الرسول محمد (صلى الله عليه وآله)، وكان الوعد الثابت من عليٍّ (عليه السلام)، وقرار العصمة غير مثقوب الرأي، بل نبضه يعيش حياةً كلما دامت الأنفاس؛ لأن بيت الولاية وعاءٌ لمجمع تراث النبوة، ومضامين أخلاقها، ومعادلاتها المتزنة المتنزهة عن الخطأ.
ورُوي عن الإمام الباقر (سلام الله عليه) قوله:
"وكانت الفرائضُ يَنزلُ منها شيءٌ بعد شيء، تَنزلُ الفريضةُ ثم تنزلُ الفريضةُ الأخرى، وكانتِ الولايةُ آخِرَ الفرائض، فأنزلَ اللهُ عزّ وجلّ: (اليوم أكملت...)، فكانت فريضةُ الولاية هي آخر فريضة، وبها كمالُ دينِ الله عزّ وجلّ."
وقد عُدّ عيدًا للنهضة والتجدد في الأفكار، والإطار، والمناقشات، وكل الحوارات المهذبة جيلًا بعد جيل، وباختلاف اللغات، لأنه العيد والوعيد.
الغدير، مهرجانٌ يركّز على الأولويات، وهي: خلق الإنسان، وتربيته، وتعزيز المبدأ العلوي في ذاته، وإيداع كل المفاهيم الرافضية في نفس المؤمن، والتزام ولاية علي بن أبي طالب، ونبذ الطرف المعادي الذي يقف صامتًا أو متخاذلًا أو متغابيًا عن حقّ الانتخاب؛ لأن الولاية شرطٌ أساسيٌّ لإيجاد مجتمعٍ معتدلٍ قائمٍ على التوازن في كل المجالات.
الغدير شمعة التغيير، وتعزيز القوة في الجيل الناشئ، له مفهومٌ يغاير كل الأعياد؛ فهو عيدٌ يفصل بين الحق والباطل، هو عيدٌ يحدّد مشاعرك ويقولب قالبك، ويستهجن الصفات المتغيرة، هو عيد المواجهات، يُعرّي مزيج البهجة القائمة على التسليات، بل هو عيد القدرة، التحدي، والتضحية، الثقافة، والتفاني، والمنهج، الإيمان والطاعة، عيد الفوز بالآخرة، عيد الانتصار العلوي والمنهج الأخروي.
عيدٌ يُلزم به كلّ شيعيٍّ أن يُبايع ويجدّد ولاءه بأيّ طريقةٍ وأيّ أسلوب. فكل عيدٍ هو منحة الباري للعباد، إلا عيد الغدير، فهو عيد الله الأكبر، عيد البيت العلوي، عيد نعطيه الموقف وإظهار الثبات، نسجد له ونسبّحه، نرتّل آياته ونقدّسه، عيد الاعتراف، عيد رفع أكفّ الولاء لعليٍّ وآل بيته، هو عيد الإعلان عن هويتك، وصدق الركعات.
اضافةتعليق
التعليقات