حين يُنزعُ الإنسان من المكان الذي غَرس فيه نبضه، وصارت دموعه لغة يومية، والأنين طقسًا من طقوس العشق ، فالأرض التي تضم أحبابنا لا تكون مجرّد تراب، بل تتحوّل إلى جزء من الروح، لا يُنتزع دون ألم ، وما أن ينتهي وقت اللقاء ونُجبر على مغادرة الأرض التي شهدت آخر نظراتهم، آخر كلماتهم، حيث خُطّت المأساة على الرمال، واختلطت الدموع بالدماء، والوداع بالصلاة ، فلا تزال آثار الخطى محفورة، وصدى الصيحات باقٍ، وأرواح الشهداء تحوم كأنها لم تغادر، يقال لك: "عليكِ أن ترحلي".
ذلك ما واجهته نسوة الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ ، حين جاء الأمر بالعودة إلى المدينة ، التي خرجنَ منها برفقة الأحبة، وعُدن إليها مُثقلات بالفقد، مُحمّلات بالحكايات، بلا ملامح الفرح، ذلك الرحيل لم يكن انتقالًا بين مكانين، بل "فِراقًا مكانيًا" ممزوجًا بوجعٍ يتجاوز حدود الجغرافيا، إلى حيث يسكن القلب والوجدان والذاكرة، فليست كل أنواع الفِراق سواء. فهناك فِراق لا تودّع فيه الأحباب بأيدٍ مرتجفة، بل تتركهم وهم مستقرون في ترابهم، تحرسهم السماء، وتُظلهم الدعوات والدموع ، حين تُنتزع الروح من مكان ألفته، من رائحة مَن تحب، و خطواتهم، و آثارهم، لتُجبر على العودة فيما القلب مُعلّق في أرض الفقد.
لقد عبرت نسوة الطف مرحلة لم تعبرها أي امرأة في التاريخ ، وعشنَ الوجع فرديًا وجماعيًا، و واجهنه بصبر الصالحات، لكنّهن يحملن في صدورهن نارًا لا تنطفئ. نارًا من الحنين، من الأسى، من سؤالٍ لا إجابة له: كيف يمكن أن نترك من نحب في أرض الغربة، ونعود؟
في كل بيت من بيوت المدينة، بعد عودة قافلة السبايا، هناك مأساة صامتة، لا حاجة للحديث، فالأبواب تُفتح على بكاء، والعيون تغلق على خيال الراحلين، لم تكن المدينة ذاتها، ولم تكن النساء ذاتهنَ لقد تغيّر كل شيء.
والفِراق المكاني هنا ليس مجرّد فراق للأرض، بل فراق الذات القديمة. فمَن تعود من كربلاء، لا تعود منها كما خرجت. كلّ واحدة من تلك النسوة كانت تحمل في داخلها "كربلاءها" الخاصة، كربلاء الأم، والأخت، والزوجة، والطفلة، والسيدة النبيلة التي أصبحت حاملة رسالة الشهادة.
إنه فِراق متعدد الطبقات، فقدٌ جسدي، واغترابٌ روحي، ومحنة جماعية تُشكل ما نُسميه بـ"الوعي الجمعي النسوي" الذي لا يُكتب في الكتب، بل يُحفظ في دموع الأمهات ووصايا الجدات، ويتوارثه النساء في طيات العزاء والزيارة، وفي الحنين المتجدد كل محرم ، ولعل أعظم تجليات هذا الفِراق هو ما أظهرته السيدة زينب ـ عليها السلام ـ من ثبات رغم الانكسار، ومن قوة رغم الحزن. كانت تجسّد صورة المرأة التي لا تستسلم، والتي تنقل المأساة إلى رسالة، والحزن إلى هدف، والفِراق إلى عهد لا ينكسر.
وما أشبه ذلك الفِراق المكاني بما تعيشه الكثير من النساء في زمننا هذا، نساء يُجبرن على مغادرة أوطانهن، قبور آبائهن، ذكرياتهن، رغماً عنهن. فيحملن ذاكرتهن معهن، ويمضين في الحياة بخطى لا تخلو من الأسى.
إن هذا النوع من الفِراق يعكس وواقعنا، وما نحمله في داخلنا من صراعات بين التعلّق بالمكان، وضرورة الانفصال عنه. فعلينا أن نتذكّر أن القوة لا تعني غياب الحزن، بل الحزن المجبول بالإيمان، والممزوج بالعطاء ، وعلى هذا يبقى الفِراق المكاني من أكثر التجارب وجعًا، لأنه لا يترك لك خيارًا. يُرغمك على الرحيل، بينما قلبك متشبث بما كان. وقد علمتنا نساء الطف، أن هذا الفِراق قد يكون بداية رسالة، لا نهاية قصة.
اضافةتعليق
التعليقات