لتنعم الشمس حين تبطِن العلم والتعلُّم، وترتقي مدائنُ الفتح بشعاعها، وتستوعب ذروةَ العمقِ العلميِّ ينبوعَ فجرها، أن خلّدت قائدَ مسيرتها: الإمام الصادق (عليه صلوات الله)، الأبَ الجعفري، والمبدأَ الرافضي، والمُدرّسَ الجامعي، والمُحقِّقَ الحوزوي، ومؤلفَ الكتبِ وجامعَها، وحافظَ حديثِها ورواياتِها، مُحصِّنَ الأفهامِ أن تزيغَ عن الحقِّ وفهمِ حقيقتها.
في حياته، ارتقت البصيرةُ مدارجَ الرقي، ولبست أحلى حُليّها من الأفكار والعِبر والبصائر والهدى، وأباحت عرصاتُ ثقافتِه كلَّ العالم، لتتقدّمَ حضاريًّا، وتستقيمَ مداركُها، وتمتدَّ أزقةُ كمالاتِه إلى حيثُ وحدانيةُ اللهِ سبحانه وأُفقُ الفضائل.
لقد تربّى العلمُ على يدِه المباركة، وبلغ المراتبَ الشاهقة، وأهدى الخيرَ إلى سلوكِ الطيبين بنفحاتِ حديثِه وعلمِه اللدنيِّ اللامتناهي، حيثُ إنّ ولوجَ نفقِ التقدُّم لا يكونُ إلاّ بمعرفته، وإدراكِ خطواتِه، والعثورِ على زواياهُ الخفية، والعللِ التشريعية، وكلِّ الرموزِ التي تتصلُ ببعضِها، لفهمِ شيفرةِ سرِّه الأعظم.
لذا، تجمّل العلمُ بمقوماتِه العلمية، وأهداه شرفَ التألّقِ والسنَا، وتشرف بذائقته الثقافيةِ المتميزةِ بالتكاملِ دون غيرِها من العلوم، ونال وسامَ التباهي بحضرتهِ المباركة، حيثُ هو الصادقُ في دينِه ومذهبِه، الغنيُّ في فكرِه، الممهدُ للفرج بخطواتِه التوعوية.
فكما أن النبيَّ مدينةُ العلمِ، وعليًّا بابُها، فمدائنُها هم آلُ بيتِ رسولِ الله (صلواتُ الله عليه وآله)، والإمامُ الصادقُ (عليه السلام) إحدى مدنِها المتشعبةِ بالعلمِ طُرُقًا، والمتزينةِ بالأدبِ زُقاقًا، والمحكمةِ مبدأً وإخلاصًا.
علْمًا استدراجيًّا تبناهُ الإمامُ (عليه السلام) وفقَ نمطِ الاستيعابِ الإنساني وتنوّعِه البشري، مراعيًا فيه ذائقتَه وطلبَه للمعرفة، حتى بات مصدرًا موحّدًا يُرجَعُ إليه في حلِّ المعضلات، والحوارات، والأبعاد كافة.
كلُّ ما نشعرُ به في هذا الرواقِ الزمنيِّ هو ألمُ الروح، الذي اغتالَ مكامنَ ضعفِنا عن فهمِ هذه العظمةِ والقدوة، وعظمةِ أفكارِها، ووحدةِ أهدافِها القيّمة، وعن سعةِ ثقافتِها الحضارية، وخدماتِها المتواصلةِ لِلَمِّ شملِ التشتّتِ النهضوي، وشدِّ الترهلاتِ العلمية من عنونةٍ مقيتة.
ولقد قدّم الإمامُ للتحدياتِ الفكريةِ والعقائديةِ خاصّةً فلترةً نقيةً صافيةً من أيِّ مضادٍّ لا يتصفُ بالحياة، وأكّدَ ذلك عبرَ الأجيالِ بمذاكرةِ الصفحاتِ الحرّةِ المتمثلةِ بالشموليةِ من جمعِ الرواياتِ والأحاديث، التي تنقلُ الواقعَ عبرَ أثيرِ الحرفِ والبيانِ إلى كلِّ باحثٍ عبرَ الزمن.
عزّ على كتابِ المذهبِ الجعفريِّ أن ينعى نفسَه، وكلّ من شمّ عبقَ العلمِ الحقيقيّ وجمالَ حرفِه، ذكرى استشهادِ إمامِه وقدوتِه الإمامِ الصادقِ (عليه السلام).
ألمٌ يعتصرُ الحاضرَ لفقدِه، وشعورُ الحزنِ يرافقُ كلَّ كلمةٍ تنطقُ بمآثرِ حديثِه، وله الفضلُ الأكبرُ والعلوُّ الأسمى لتقدُّمِ كلِّ فضيلة، وحفظِ التراثِ من معضلةِ الضياعِ والنقد.
إنه سادسُ أئمةِ العترةِ الطاهرة، جعفرُ بن محمد الصادق (صلواتُ الله عليهم أجمعين)، نَصَّ عليه اللهُ تعالى على لسانِ رسولِه (صلى الله عليه وآله وسلم) في بحار الأنوار، إذ قال:
(... يُخرجُ الله من صُلبه – أي الإمام الباقر – كلمةَ الحق، ولسانَ الصدق، فقال له ابن مسعود: فما اسمه يا رسول الله؟ قال: يُقال له جعفر، صادقٌ في قولِه وفعله، الطاعنُ عليه كالطاعنِ عليّ، والرادُّ عليه كالرادِّ عليّ).
فلم يتركْ للعلمِ ثغرةً إلا وألجمَها بلجامِ الإشباعِ النوريِّ المعرفيِّ، الذي لا رادَّ لفضلِه على مرِّ الزمن، حتى أضحى أكبرَ معينٍ لأصحابِ الهممِ في مجالِ التحصيلِ العلمي، والتحقيق، والبحثِ في كلِّ مجالاتِه.
حتى أفواهُ من خالفَه وعاداه أبدتْ هزلَها المتفاقمَ، وانعدامَ قدرتِها على مواكبةِ علمِه دون مفارزِ كلامِه وعبقِ أحاديثِه.
وفي كتاب التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة، شهدَ له المخالفُ، بالقول:
(وكان من سادات أهل البيت فقهًا وعلماً وفضلاً وجودًا، يصلحُ للخلافةِ لسؤدده وفضلِه وعلمِه وشرفِه، ومناقبه كثيرةٌ تحتملُ كُرّاسيس).
فأين هو الحقُّ، أيها المتعذّرون من كوادرِكم التي تبتغي طُرُقًا متعرجةً دون بصمةٍ من معارفِ الصادق (عليه السلام)؟
هل يُنكَر؟! وهل زعيقُ غرابيبِكم دليلٌ إلا على هامشِ مؤتمرِ التجاهلِ منكم للمبدأِ الجعفريِّ الأصيل؟!
يا ليتَها تكونُ القاضيةَ لكم، لتعيشَ الفكرةُ أمانَ الانحرافِ منكم. الأسفُ، كلُّ الأسفِ، لمن يرتدي قميصَ المذهبِ وهو ناكرٌ لرفضِ المخالفِ له، والويلُ لمن يتعايشُ على حسابِ الفهمِ الخطأ، والجهلِ المتعمد، يجنبُ نفسَه وغزَّ السيف، أو تمادى في عصيانِه وتعصّبِه كما فعلَ البخاريُّ وغيرُه ممّن أودَع ضغائن.
كما يُنقل في التاريخ:
(أن البخاري نظر إلى مذهبِه قبل أن ينظرَ إلى الأحاديث، فما خالف مذهبَه لا بدّ من إبعاده عن "صحيحه"، ولذا فإن أيّ حديثٍ يُذكَر عن الإمام الصادق (عليه السلام) يكون هادمًا لعقيدتِه ودينِه! فالحلّ الوحيد هو عدمُ الروايةِ عنه، ليفتعلَ أنه لم يصله منه حديثٌ صحيح، ولأنه يروي عن آبائه المعصومين وهو نفسُ السند الذي سُمّي السلسلة الذهبية، التي لو تليت على مجنونٍ لأفاق. وإن اعتمد على رواية الصادق، كان يعتمد على رواةٍ كثيرًا منهم نواصب وخصماء لأهل البيت (عليهم السلام)، أو أنهم مجهولون. وهما لم يخرجا حديثًا واحدًا عن عترةِ النبي (صلى الله عليه وآله)، وإن أخرجا، فهما لا يأتينا إلا بأحاديث موضوعةٍ عليهم، ممّا تمسّ العترةَ الطاهرة).
لقد نقل البخاري ومسلم فريدةً عن أهل البيت وهي روايةٌ مختلقةٌ مزيفة، نسباها إلى الإمام زين العابدين (عليه السلام) على أنه قال:
إن أميرَ المؤمنين عليًّا وفاطمةَ (عليهما السلام) لم يكونا يستيقظان للصلاة، وكان النبيُّ يوقظُهما! فقال عليٌّ لرسول الله شيئًا، فأجابه النبي بآية:
(وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا) [الكهف: 54].
تقريعًا لعلي! (صحيح البخاري 2: 4، صحيح مسلم 2: 187).
وكذا نسبا إليه حديثًا مزورًا، يذكر فيه قصة شرب حمزة للخمر وتعاطيه إياه (صحيح البخاري 3: 80، صحيح مسلم 6: 85). مركز الأبحاث العقائدية.
أهكذا تُعرَفُ الفضائل؟!
أن تأكل من خوانِ علمِها الغزير، وتتزكّى الأقلامُ من معارفِه، دون إيرادِ الشكرِ له!
أليس الفضلُ يرجعُ إلى من فضّله، وأدّخره، وجمعه، وعزّزه، وأهداه نورًا يغزو معابرَ التاريخِ وأهلِه؟!
إنه عصرُ انهزامِ الضمائر، ومخالبُ اليأسِ تنهشُها موائدُ الفزع، وهل للمشاعرِ إلا أن تجثوَ حتى تنجو من سفّاحِ الزمن، الذي تقمّص الظلم، وقتلَ الهمّةَ وأولادَها، وسلبَ براءتَها؟
قال الإمام الصادق (عليه السلام):
(يأتي على الناس زمانٌ ليس فيه شيءٌ أعزّ من أخٍ أنيس، وكسبِ درهمٍ حلال). ميزان الحكمة، ج٣
الكلمةُ اليوم، وبفضل الإمام الصادق (عليه السلام)، أضحى لها مقامٌ تزوره ذواتُ الحناجرِ المخلصة، وتترجمُه في كلّ سطرٍ يحتاج إلى دليل. ورسم بنود الحروف، وأثبت قاعدة العلم على ضوء الشرع والنور، وربط الحقّ وقانونَه وفقَ محطاتِ قانونِ المراجعة المرتبطةِ بالدليل.
ليس كما يفهمه المطالعُ للنهج فقط، بل كما تسبقه الأرزاقُ البيّنةُ لفهم الهدفيةِ منه. فكم من عتمةٍ في التاريخِ استضاء أهلُها بقيامةِ علم الإمام الصادق وثورته المناهضة للجهل!، وكم من مرضٍ علميٍّ وفكريٍّ عقيم شافاه كتابُ الإمام الصادق ورسالتُه المباركة!
من حكمتِه تعافت العلومُ من الانحرافِ والتهوّر، ومن خزائنِ فضلِه تعلّمت معنى النشاط، واستيعابَ الفكرة، ودورَ العلمِ في النجاة، ومعنى تأليفِ الكتب، وتأسيسِ الحبر، وتثبيتِ المنهج، وكيفية اختيارِ الجمل، كما هي حروفُ النحت، تبقى عظيمةً غائرةَ المعنى، حتى وإن تقدمت حروفُها أو تأخرت.
فالختامُ هو خيرُ كلام، صادقُ العترةِ في إحدى وصاياه:
(للأمور بَغَتَات، فكن على حذر، وإياك ومرتقى جبلٍ سهل إذا كان المنحدرُ وعراً).
اضافةتعليق
التعليقات