في ذلك العصر وصلت الأمة إلى حالة من الإنهماك النفسي والجسدي بحيث لا يمكنها القيام بثورة شاملة. رأينا موقف المقاتلين المأساوي من الإمام الحسن (عليه السلام). كما رأينا كيف فعلت رشاوي معاوية فعلها بين رؤساء القبائل، أضف إلى ذلك: التضليل الديني والسياسي وإحياء النزعات القبلية الجاهلية، أمام هذه الأسباب وصلت الأمة إلى حالة من القعود والاسترخاء بحيث أصبحت غير مؤهلة لحمل الرسالة وأداء الأمانة، فكيف سيكون موقف الإمام (عليه السلام) لو دعا إلى الثورة؟ ستكون النتيجة حتما الخذلان والفشل.
اضافة إلى عدم وجود قوة كافية ومؤهلة للثورة، لم تكن هناك قوة كافية ناصرة ومؤيدة واعية لأهداف الثورة التي على الإمام القيام بها. وقد أكد على ذلك مرارا، «روى النهدي قال: سمعت علي بن الحسين (عليه السلام) يقول: ما بمكة والمدينة عشرون رجلا يحبنا ».
والحب الذي يعنيه الإمام هو الحب المقرون بالاتباع والإخلاص لأهل البيت فكيف يمكن للإمام أن يثور بشلة قليلة أمام جيش أموي كبير ؟ لا يمكن تصور ذلك أبدا. علما أن الإمام السجاد (ع) كان واقعيا جدا في تصرفاته الحكيمة و الدقيقة. إن الصفات الإسلامية المطلوبة في الثائرين غير موجودة. وفي الرواية التالية يبين لنا الإمام (ع) رأيه بوضوح « عن أبي عبد الله (ع) قال : لقي عباد البصري علي بن الحسين في طريق مكة فقال له : يا علي بن الحسين تركت الجهاد بصعوبته وأقبلت على الحج ولينته ، إن الله عز وجل يقول : ( إن الله - اشترى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّة * يقاتلون في سبيل الله - فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التوراة والإنجيل والقرآن * وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله فاسْتَبْشِرُوا يبيعكم الذي بايَعْتُم بِهِ وَذلِكَ هُوَ القورُ العَظِيمُ ). فقال له أتم الآية ، فقال : ( التائبون العابدون الحامِدُونَ السَّائِحُونَ الراكِعُونَ السَّاجِدُونَ الأَمرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَن المنكر والحافظونَ لِحُدُودِ الله - وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ).
إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم ، فالجهاد معهم افضل إن وجد الثوار المتمثلة فيهم هذه الصفات بحيث تجري في دمائهم وهي جزء لا يتجزأ من كيانهم فإنه يقدم والله تعالى سينصرهم حتما وسينتصر بهم : « التائبون ، العابدون ... هؤلاء هم أنصار الله وأحباؤه وليس المراؤون المخادعون الكذابون المراوغون.
ذلك أن الله مع الذين اتقوا والذين هم صادقون .. وقد وجد هؤلاء في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله) وانتصر بهم انتصارا باهرا بإذن الله فانتشروا في بقاع الأرض ونشروا معهم الرسالة الإسلامية ثمرة من ثمار إخلاصهم للدين الحنيف فوصلوا إلى الدرجات الرفيعة و الصفات السامية النابعة من روح الإسلام العظيم.
وهذا فإن الاستفادة من التجارب السابقة هي حكمة، فقد تجرع الإمام الكثير من الآلام بسبب ما أصابه من غم وهم الحوادث التي جرت على جده أمير المؤمنين وعلى أبيه الإمام الحسين وعلى عمه الإمام الحسن، وقد رأى خذلان الناس عن نصرة أبيه وحيدا، فريدا، عطشانا على شط الفرات هذه التجربة أثرت في نفسه وتعلم منها دروسا واقعية مؤلمة واستخلص عبرا كثيرة في معرفة نفوس الناس وأحوالهم وأسلوبهم، ولم يكن للأئمة المعصومين: علي والحسن والحسين من سبيل أفضل مما فعلوه مع هذه الأمة، فالأساليب التي اتبعوها والمواقف التي اتخذوها مع الناس لم يكن أمامهم غيرها.
ولذلك لم يستجب الإمام زين العابدين لدعوة أهل العراق بـ الثورة ، وقد بين ذلك واتخذ موقفا حاسما واضحا تجاههم. نتلمس السبب في خطبته (ع) أمام أهل الكوفة بعد مقتل أبيه الإمام الحسين (ع) قال : « رحم الله امرءا قبل نصيحتي وحفظ وصيتي في الله ورسوله وأهل بيته فإن لنا في رسول الله أسوة حسنة. فقالوا بأجمعهم: نحن كلنا سامعون ، ومطيعون ، حافظون لذمامك غیر زاهدين فيك ، ولا راغبين عنك ، فمرنا بأمرنا يرحمك الله فإنا ومسألتي أن لا تكونوا. فإذا وجد الثوار المتمثلة فيهم هذه الصفات بحيث تجري في دمائهم وهي جزء لا يتجزأ من كيانهم فإنه يقدم والله تعالى سينصرهم حتما وسينتصر بهم ، ذلك أن الله مع الذين اتقوا والذين هم صادقون .. وقد وجد هؤلاء في عهد الرسول (ص) وانتصر بهم انتصارا باهرا بإذن الله فانتشروا في بقاع الأرض ونشروا معهم الرسالة الإسلامية ثمرة من ثمار إخلاصهم للدين الحنيف فوصلوا إلى الدرجات الرفيعة و الصفات السامية النابعة من روح الإسلام العظيم.
كما نرى في عبارات الإمام السجاد (ع) :
ولم ينسني ثكل رسول الله (ص) وثكل أبي وبني أبي ، وجده بين لهاتي ومرارته بين حناجري وحلقي وغصصه تجري في فراش صدري .
هذه الكلمات تحمل بين طياتها المرارة والألم الشديد في كل قطعة من جسم الإمام (ع) والغصة ما برحت باقية في حلقه حزنا وكمدا من هذه التجربة المرة جعلته يتخذ موقفا حاسما لا مهادنة فيه بأن لا يكرر التجربة التي مرت على آبائه وأهل بيته يرفض الاستجابة لم يدعوه القيام بالثورة على الحكم الأموي دون أن يطمئن لأسباب الانتصار.
قسوة الملوك وانحرافهم عن الإسلام :
المتتبع للتاريخ يرى بوضوح أن من أسباب فشل الثورات التي قامت في عهد الأمويين والعباسيين هو حدوثها في وقت قوة الحكام والولاة لا في زمن ضعفهم.
لقد كان الملوك الأمويون وولاتهم في عصر الإمام (ع) في أوج قوتهم في ملكهم ويشهد التاريخ بأنهم أشد الناس قسوة وانحرافا عن الإسلام حيث وصل بهم الأمر إلى رمي الكعبة بالمجانيق وسبي المدينة وقتل ريحانة رسول الله (ص). وملوك عصره هم: یزید بن معاوية ومعاوية بن يزيد ومروان بن الحكم ، وعبد الملك بن مروان والوليد بن عبد الملك وولاة عصره هم: الحجاج بن يوسف الثقفي وعبيد الله بن زياد وهشام بن اسماعيل والي المدينة.
وكل هؤلاء كانوا من الفاسقين ، الظالمين ، لا يتورعون عن ارتكاب الحرام ، ففي عهدهم قتل أشرف الناس أبي الضيم سيد الشهداء ، الحسين بن علي ، وسبيت المدينة وهدمت الكعبة ورميت بالمجانيق. ويزيد الخمير السكير كان صاحب جوار وكلاب وقرود ومنادمة على الشراب والحجاج بن يوسف الثقفي كان ظالما غشوما أهلك الحرث والنسل وتطاول على الصحابة الشرفاء و العلماء الفضلاء.
هذان نموذجان من النماذج العديدة من الملوك والولاة الذين كان قد عاصرهم الإمام (ع) فمثلهم يجب أن تعد لهم العدة الكافية ليقضي على طغيانهم وجبروتهم ، وهذا ما لم يكن متوفرا للإمام زين العابدين.
اضافةتعليق
التعليقات