لقد اعتاد أمير المؤمنين (عليه السلام) الاعتماد على رجال عرفوا بموقفهم الثوري الساخط على النهج الذي اتبعه الحاكم السابق، دليل على مضيه في إعادة بناء التجربـة الاسلامية بما يتلائم مع أسس الاسلام المحمدي الأصيل وكان مالك بـن الحارث الاشتر مع الامام أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) والأيدي القادرة على انجاز عملية الاصلاح.
وكان عهده لمالك ذلك العهد الذي يعد من أطول العهود، ومن أبرز القادة والولاة والذين کانوا موضع ثقته السياسية مصداقا للرؤية الخاصة التي يحتفظ بها الامـام (صلوات الله وسلامه عليه) لمالك وللدور الذي يمكن أن يؤدیه في عملية الاصلاح المنشود.
إن الاسس التي انطلق منها الامام أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) في هذا العهد قد بنيت على تصوره للدور الذي اسند للأشتر كعامل له على مصر ومن الممكن أن يكون ما ورد فيه قابلا للتطبيق من لدن الولاة الآخرين فضلا عن امكانية تطبيقه من لدن أي حكم يسترشد بالمبادئ الصالحة والمثلى في تعامله مع الرعية.
أولا المهام الموكلة للوالي بحسب هذا العهد هي جباية الخـراج وتحصيـل المال لخزينة الدولة واستصلاح الرعية وهي السياسة الداخلية وعمارة الأرض وهي السياسة الاقتصادية.
ولما أدرك الامام أمير المؤمنین أن الرعية تضم إلى جنب المسلمين أبناء ديانات وملل أخرى ومنها المسيحية واليهودية فقد أرسی أسس الأمن الاجتماعي برسم الكيفية التي يتم عن طريقها التعامل مع معتنقي العقائد المغايرة للإسلام وهنا أرسی قواعد تمس تأمين الأمن الاجتماعي الذي شعر الجميع بالمساواة والعدل والطمأنينية.
ترك بعهده لمالك النخعي والمعروف بعهد الأشتر الوصايا التي تجمل طريقة التعامل مع الآخر المختلف فابتدأه بالقـول: "وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبع ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزل وتعرض لهم العلـل، ویؤتی على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك إله من عفـوه وصفحه".
وهنـا يؤكد الامام أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) أن تقبل الآخر ومعاملته على أنه إما أخ في الدين أو مماثل في الخلقة أمر لا يقتصر على سلوك خارجي بل يمتد لأن يكون سلوكا نابعا من الذات حتى يتحول إلى سلوك فطري يستند على محبة الرعية بجميع تنوعاتها واختلافها وهو يعني أن لا يأخذ الراعي نظرة مسبقة تتمیز بالحيف والتمييز بالمعاملة فهم نظراؤه في الخلق الأمر الذي يستوجب عليه معاملته بأحسن مم يتوقعون.
إن تذكير الامام أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لمالك بأن الانسان الذي يعتنق دينا آخر هو نظير لك في الخلقة هو دعوة لحسن التعامل معه وعدم التعالي عليه بأي شكل من الأشكال، وكان (صلوات الله وسـلامه عليه) يدرك تمام الادراك أن أهل الذمة كانوا يواجهون عنتا في حالة جمع الضرائب والرسوم وتحصيلها منهم وفكرة النظير في الخلق تضاهي وتكمل الاخوة في الديـن وتضع أساس العلاقة تقوم على المساواة بين جميع الناس من مختلف الملل والنحل والقوميات والأعراق وتحدد الإطار القانوني والشرعى لحرية الاعتقاد تلك الحرية التي لا يمكن قهرهـا.
وبطبيعة الحـال كان الامام أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) على يقين تام بأن الكلام المتعلق بالمعاملة المثلى مع الآخر لن يكون لوحده السبيل الناجح والأمثل لتحويل التعامل مع المكونات المذهبية والدينية الأخری إلى أسلوب أفضـل ما لم تكـن هنالك اجراءات عملية ترافق هذا الخطاب، فأردفه باتباع الأساليب الأكثر نجاعة لتحويل هذا السلوك إلى سلوك عملي بقولـه: ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تأكل حقوقهم أو تقتنص الفرص لسلبهم ما لديهم. وبين صلوات الله وسلامه عليه أولوية العفو والصفح في مقابل العقوبة والانتقام إذ إن من شأن اتباع الصفح والعفو وتقديمه على الانتقام والأخذ بالظنة أن يشیع بين الرعية من مسلم وغير مسلم طابع التسامح في المعاملة ولا يورث عداوات بين جهة وجهة أخرى.
كان الامام أمير المؤمنین (صلوات الله وسلامه عليه) يدرك تمام الادراك أن المسلمين قد فتحوا بلدانا تميزت بموروث حضاري فاق ما كان موجودا عند العرب من سکان شبه الجزيرة العربية وبالتالي كانت نظرة العربي لهذه الشعوب والأقوام نظرة تقوم على الحسد والرغبة بالتشفي والانتقام وهو مايتنافى وروح الاسلام الحقيقية وكان في تعامله مع الأسرى الفرس في المدينة المنورة خیر دلیل على رغبته في تعريف الآخر بالأسلوب الاسلامي الحضـاري الأمثل في التعامل مع الآخر.
اضافةتعليق
التعليقات