ضياء .. ذلك الشاب الهادئ، الرزين، بملامح ترشح نبلا وطيبة، والذي لا يألف التواجد في بيوت الغرباء ومع ذلك قَبِلَ دعوة زميله رضا على العشاء، منقادا لذلك الصوت الداخلي الذي ينطلق أحيانا من أعماق سحيقة في الروح؛ فنستجيبُ له حتى عندما نكون أقلّ استعدادا وقناعة!
شعور بالإحراج، وثمّة ألم في قلبه كالوخز شعر بهما في أثناء جلوسه على الأريكة في الغرفة الأنيقة رغم بساطتها، وهو يتأمل سجادة الصلاة التي فرشها له رضا دون أن يجد في نفسه القدرة على القيام لأداء الصلاة التي حلّ وقتها قبل مدة!
لقد نسي كيف تُؤَدّى الصلاة، حتى أنه لا يذكر متى صلّى آخر مرة؛ لذا ظلّ متسمّرا في مكانه، لكن رضا بتصرّفه العفوي - عندما فرش له السجادة- والذي يعكس اعتقاده الجازم بأنه يصلّي ذلك الظن الحسن من زميله أشعره ببعض الارتياح والعزاء !
دخل عليه رضا فوجده لا زال جالسا، بادره ضياء:
- ماهذا العطر الذي يعبق في جو الغرفة؟
ردّ رضا باسما:
- إنه بخور الوالدة، تدّخره للمناسبات الاستثنائية كمناسبة هذه الليلة !.
وكأن رضا شعر بأن ضيفه لم يؤدي الصلاة بعد لذا تركه قائلا:
- نحن بانتظارك بعد أن تنهي صلاتك.
نهض أخيرا، طوى السجادة ووضعها جانبا وقد عقد في نفسه العزم على أن يتعلّم الصلاة من جديد ويلتزم بأدائها.
في الصالة فوجئ بكثرة الضيوف، وبجوٍّ احتفالي لم يكن يتوقعه، همس لرضا: يبدو أن لديكم احتفالا، ظننتك دعوتني على العشاء، ردّ عليه رضا بطريقته الودودة المازحة: بعد الاحتفال سنتناول العشاء، لا تخف لن نتركك جائعا.
ازدحام الصالة بالمدعوين جعل الدماء تتدفق إلى رأسه دفعة واحدة، شعر بتوهج أذنيه كجمرتين متوقدتين، بينما كان رضا يعرّفه على الحضور، بدأ برجلٍ خمسيني على وجهه الوسيم سيماء الوقار والهيبة
- أبي الحاج مصطفى !
بعد أن استوى جالسا أدار طرفه في القاعة المزيّنة، في إحدى الزوايا طاولة كبيرة رُصَّت عليها أطباق متنوعة من الحلوى والفاكهة، وانتصب في وسطها نصب صغير يمثل كفٌّ مرفوعة بكفٍّ أخرى، ظلّ يحدّق به متسائلا عن دلالته !!
بعد تبادل التحايا بدأ الحاج مصطفى يقصّ حكاية ما، طالما كان ضياء شغوفا بسماع القصص وقراءتها، ذلك الشغف الذي يدعوه إلى الترحال بمخيلته مع الأحداث حتى كأنه أحد أبطالها، كان الحاج مصطفى يحكي قصة الغدير، تلك القصة التي يعرفها الحضور كلّهم إلا ضياء؛ فهو لم يسمعها قط، ربما سمع اسم الغدير لكنه غير واثق مما تعنيه الكلمة، ولم يشعر بالفضول يوما ليسأل؛ الموضوع برّمته كان خارج دائرة اهتمامه؛ فهو ينتمي لطائفة لا تُدين بالولاء للغدير وصاحب الغدير!
بدأت القصة - قال الحاج مصطفى- عندما حجّ النبي (صلى الله عليه وآله) حجة الوداع، وكان برفقته مايقارب المائة والعشرون من المسلمين!
سرح ضياء بمخيلته مع جمع الحجيج محدّثا نفسه: يالها من نعمة أن يحجّ الإنسان مع الرسول، ويحظى برفقته، تنفس الصعداء وصدرت منه أنّة جعلت رضا يلتفتُ إليه متعجبا فرآى في عينه التماع يشبه دمعة صغيرة توشك أن تغادر الجفن !
استمر الحاج مصطفى في سرد القصة: بعد أن أكملوا مناسك الحج وقفلوا راجعين كان هناك أمر في غاية الأهمية يتعيّن على النبي تبليغه للمسلمين قبل أن يصلوا المدينة، فنزل قوله تعالى: { یَـٰۤأَیُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغۡ مَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ مِن رَّبِّكَۖ وَإِن لَّمۡ تَفۡعَلۡ فَمَا بَلَّغۡتَ رِسَالَتَهُۥۚ وَٱللَّهُ یَعۡصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ }.
كان النبي (صلى الله عليه وآله) مشفقا من تبليغ الأمر، قلقا من ردود فعل بعضهم؛ لذا جاء التأكيد له من الله تعالى بالعصمة من الناس !
- قلق! ولِمَ يقلق ؟ هتف ضياء متسائلا بصورة مفاجئة جعلت الجميع يلتفتون إليه بدهشة، وتوقف الحاج مصطفى عن الكلام
- نعم ياولدي قلقا لأنه يعلم أن هناك فئة ستعارض -وبشدة- ما سيبلّغه، وستقف بوجه تنفيذه على أرض الواقع، ولن يدّخروا وسعا في إفشال المشروع الإلهي وزحزحة الأمور عن مواضعها .
وهنا تساءل ضياء بتعجب لأنه لا يتصور أن هناك من يجرؤ على معارضة الرسول أو مناقشته في أمر: يعارضون النبي، ومن يجرؤ على معارضته؟
ابتسم الحاج مصطفى بمرارة:
- يا ولدي لقد عارضوه كثيرا، وخالفوا أوامره مرارا، وعصوه في مواطن كثيرة، اقرأ التأريخ لتعرف!
- وما الأمر الذي كان يخشى النبي من تبليغه؟
استمر الحاج مصطفى بالكلام، فالقصة في نظر ضياء أصبحث أكثر إثارة، وأخذ يتابعها بحماس سرت عدواه في الحضور مع أنهم يعرفون القصة وسمعوها مرارا .
عندما جاءت التاكيدات الإلهية للرسول (صلى الله عليه وآله) بالعصمة من الناس، وعندما أصبح واضحا من خلال الآية إن عدم البلاغ يساوي عدم إبلاغ الرسالة كاملة كان لا بد من حسم الموقف، وتنفيذ الأمر الإلهي؛ فأمر النبي الجميع بالتوقف، وانتظار من تخلّف، واستدعاء من سبق من المسلمين، كان التوقف في مكان يسمى غدير خم، وكان الوقت ظهرا حيث الحرارة اللاهبة؛ فكان المسلمون يلّفون الخرق على أقدامهم اتقاء من حرارة الرمال.
ومن أقتاب الرواحل، وأشجار الوادي نُصب للنبي (صلى الله عليه وآله) منبرا ليقف عليه ويخطب بالناس!
ومرة أخرى حُمل ضياء على أجنحة الخيال، بروح عاشقة جذلة، فصار يزاحم الحجيج، ويطاول بقامته بين الصفوف ليكحّل ناظريه بطلعة الرسول البهية، وليسمع ما سيقوله في خطابه!
كانت خطبة عصماء غاية في البيان والبلاغة، أبلغ فيها المسلمين برحيله الوشيك، وقرب التحاقه بالرفيق الأعلى، أشهدهم على تبليغه الرسالة فشهدوا له، ثم بلّغهم الأمر الإلهي، رافعا كفّ علي بن أبي طالب بكفّه هاتفا: " من كنت مولاه فهذا عليٌ مولاه، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه وأنصر من نصره وأخذل من خذله وأدر الحق معه كيفما دار"
ارتفع صوت الحاج مصطفى بحماس مهيب، وبنبرة عميقة واثقة، جعلت ضياء ينتفض، شعر كأنّ الصوت يقرع قلبه قبل سمعه، وسرت في جسده رعدة، هل هذا صوته أم صوت الرسول اخترق عوالم الغيب، وتردد في جنبات الصالة كما رددته فضاءات الوادي قبل مئات السنين؟!
التفت ضياء إلى النصب الصغير على الطاولة وقد أدرك أخيرا دلالته، وتوجّه بكلّه للحاج مصطفى يستحثّه بنظرات متوسّلة ليحكي له المزيد ممّا يجهله !.
تابع الحاج مصطفى: لقد فهم المسلمون أن الولاية المطلقة الثابتة للرسول بكل مافيها من مزايا وصلاحيات هي نفسها للإمام علي، وإن عليا أصبح - بتنصيب السماء - إماما وأميرا للمؤمنين!
بعد هذا الإعلان العظيم أمر النبي أن يُبايع الجميع الإمام علي بالخلافة والإمامة ففعلوا ذلك، فهي بيعة معقودة ثابتة في أعناقهم إلى يوم الدين، وسوف يُسألون عنها!
وعندما تمت البيعة المباركة نزل بعدها قوله تعالى:
{ ٱلۡیَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِینَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَیۡكُمۡ نِعۡمَتِی وَرَضِیتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَـٰمَ دِینࣰاۚ }!
لقد اكتمل الدين بتعيين الخليفة الشرعي الذي ارتضته إرادة السماء، وتمّت النعمة، ورضي الله تعالى بالإسلام دينا خُتمت به النبوّات والشرائع!.
كان ضياء مأخوذا بالكلام، وبالبساطة والمصداقية التي قصّ بها الحاج مصطفى قصة الغدير؛ كان كل شي واضحا ومنطقيا ومقنعا، نعم لا بد للمسلمين من قائد يختاره الله كما اختار النبي ليواصل المسيرة بعد رحيل النبي، ويكون هاديا للناس، وليحفظ الدين من التلاعب، والانحراف، هذه القناعة الغضّة التي تولدت في أعماقه دفعته للسؤال بعفوية جعلت الجميع يبتسمون:
- إذا كان علي هو الخليفة الشرعي بأمر السماء إذن لِمَ صار رابعا؟؟
- لأن المنافقين الذين كان يخشاهم الرسول قد نفّذوا مشروعهم الانقلابي بعد رحيله، وتلك قصة أخرى يطول شرحها يا ولدي !!
بعد انتهاء مراسم الاحتفال، لم يعد ضياء يشعر بالجوع، غمره شعور بالاكتفاء، صار يحدّث نفسه: هل هي حقا دعوة على العشاء، أم فرصة ساقتها الأقدار إليه؛ لتنطلق من بيت زميله خطوته الأولى في رحلته على سبيل النجاة بحثا عن الحقيقة؟
الحقيقة التي كانت كامنة في أعماقه بسكون مهيب مثل بذرة صامتة تكتنز الحياة بداخلها، تنتظر - بلهفة - فيض السماء، وتتحين فرصة الإنبات، وقد آن الأوان لانباتها!!
على الباب الخارجي وبينما كان رضا يودّع ضيفه، ويشكره على تلبية الدعوة، سأله ضياء:
لماذا أنا بالذات دعوتني من بين الزملاء ؟!
أجابه رضا باسما، وكعادته في مزج الجدّ بالمزاح: لأن اسمك ضياء فأحببتُ أن تضيءَ أمسيتنا!
بادله الابتسامة دون أن يردّ أو يعلّق؛ فلم يعد مهتمّا أن يعرفَ إذا كانت دعوة رضا عفوية أو عن قصد، لكنه كان واثقا أنه وُلـِد الليلة من جديد، فلم يعد الشخص نفسه الذي دخل هذا المنزل قبل ساعات، كان يشعر أن روحه قد أُضِيئَت بقبس من نور، وأن قلبه كزهرة تفتحت لندى الربيع، وفي أعماقه بوادر رضا كان يتوق إليه، ويبدو أنه قد أصبح قريبا منه!.
اضافةتعليق
التعليقات