إن الحرية منحة إلهية للبشرية، تغطي مساحة عمر الإنسان، والدليل على ذلك قوله تعالى: «وَقَدْ جَعَلَكَ اللَّهُ حُرًّا»، وهذا الجعل مطلق، فيشمل الجعل التكويني والتشريعي.
فأما الجعل التكويني، فيعني أن الله تعالى خلق الإنسان حرًا، حيث منحه القدرة والإرادة والاختيار، وأوجد له الآلات والأجهزة تكوينًا، فله حرية الفعل والترك، والقبض والبسط تكوينًا، أي إنه قادر على ذلك، وهو ذو إرادة واختيار بالمعنى الفلسفي لهذه الكلمات.
وأما الجعل التشريعي، فمعناه أن الله تعالى جعل الإنسان حرًا من حيث الحكم، وله وجهان:
أ - الحرية من حيث الحكم الوضعي: فهو حر غير مملوك لأحد، ولذلك لا يصح بيع الإنسان لنفسه، ولو كان برضاه، بل هو بيع باطل وثمنه سُحت.
ب - الحرية من حيث الحكم التكليفي: إذ الأصل في الأشياء الإباحة، إلا ما دلّ الدليل على خلافه.
ومن هنا، فإن من يصادر حريات الناس أو يعارضها، يقف في مواجهة إرادة الشريعة المطهّرة، وعلى الضد من قوانين خالق الكون والحياة.
ويقول الشهيد الصدر:
"ويجب أن نشير - قبل كل شيء - إلى أن هناك لونين من الحرية، وهما: الحرية الطبيعية، والحرية الاجتماعية. فالحرية الطبيعية هي: الحرية الممنوحة من قبل الطبيعة نفسها، والحرية الاجتماعية هي: الحرية التي يمنحها النظام الاجتماعي، ويكفلها المجتمع لأفراده. ولكل من هاتين الحريتين طابعها الخاص."
فلابد لنا، ونحن ندرس مفاهيم الرأسمالية عن الحرية، أن نميز بين إحدى هاتين الحريتين والأخرى، لئلا نمنح إحداهما صفات الأخرى وخصائصها.
فالحرية الطبيعية عنصر جوهري في كيان الإنسان، وظاهرة أساسية تشترك فيها الكائنات الحية بدرجات متفاوتة، تبعًا لمدى حيويتها. ولذلك، كان نصيب الإنسان من هذه الحرية أوفر من نصيب أي كائن آخر. وهكذا، كلما ازداد حظ الكائن من الحياة، عظم نصيبه من الحرية الطبيعية.
وهذه الحرية الكونية أو التكوينية - بتعبير أدق - هي إحدى المقومات الجوهرية الإنسانية، لأنها تعبير عن الطاقة الحيوية فيه، فالإنسان بدون هذه الحرية لفظٌ بلا معنى. ومن الواضح أن الحرية بهذا المعنى خارجة عن نطاق البحث المذهبي، وليس لها أي طابع مذهبي، لأنها منحة الله للإنسان، وليست منحة مذهب معين دون مذهب، لتُدرس على أساس مذهبي.
وبتعبير آخر:
ثمة نظريات برزت على سطح الفكر البشري، تذهب إلى أن الإنسان مجبور على كل شيء، وهو لا يملك من إرادته شيئًا في عالم الفعل أو الحركة أو التصور. وقد تركت هذه النظريات آثارها السوداء على تاريخ الإنسان، إذ دعته بشكل مباشر أو غير مباشر إلى الخضوع والاستسلام للظلم والطغيان، وجمّدت فيه روح الحركة والمبادرة. وكانت في قبالها مدرسة الحرية، التي ترى أن الإنسان طاقة متأملة، عاقلة، فاعلة.
وقد استعرضنا نظرية الإمام الشيرازي في هذا الميدان، فتبين لنا أنه من أنصار الحرية، أي من الذين يذهبون إلى قدرة الإنسان على الاختيار بين البدائل المطروحة، وأنه كائن غائي، أي يعمل وفق سبق في الإرادة، وفي منظور من هدف واضح ومحدد.
التنازل عن الحرية باطل ومحرم
الأصل الثالث: إن تنازل أي شخص عن حريته ليكون عبدًا لغيره باطل، ملغًى، ومحرم. وقد يُستدل على ذلك بانعقاد إجماع الفقهاء على أنه لا يجوز للحر أن يبيع نفسه، كما لا يجوز لغيره أن يشتريه، حتى لو عرض نفسه للبيع برضاه واختياره، لأنه لا يملك ذلك، بعد أن جعله الله - تكوينًا وتشريعًا - حرًّا.
والتحريم هنا هو نهي مولوي، وليس إرشاديًّا فحسب، وذلك لظهوره العرفي، وهو الأصل العام في أوامر المولى ونواهيه. وعلى أنه لو كان إرشاديًّا، لكان من قسم "الإرشاد الإلزامي" الذي استظهر ثبوته وتحققه الميرزا الشيرازي الكبير في تقريرات أصوله، بل ونقله المحقق الرشتي عن الشيخ الأنصاري، وذلك لظهوره العرفي، ولمناسبات الحكم والموضوع. وقد فصّلنا في كتاب "الأوامر المولوية والإرشادية" الكلام عن أصالة المولوية، وضابط المولوية، وعن تنوع الإرشاد إلى أقسام، ومنه الإرشاد الملزم، وأوضحنا هنالك الفرق بينه وبين المولوي الملزم، وأنه لا يعود إليه، وأنه لا تضاد بين الإرشاد والإلزام، فراجع إن شئت، وتأمل.
"إن الحرية لا تنفصل عن إرادة الحرية"، ويقول مارسيل:
"إن الوجود والقيمة والحرية أمور مرتبطة لا يمكن إنقاذها إلا معًا."
إن جوهر وباطن هذه التصورات هو التأكيد على حرية الفعل، الحرية الواقعية، حرية الممارسة. ولعل هذه القضية هي التي يبلورها بعض الكتّاب بالشعار المعروف:
"من الحرية إلى التحرر" أو "من الحريات إلى التحرر"، فالتحرر كفلسفة لا ترمي إلى إثبات أن الكائن البشري حر، ولكنها تعمل على تبيان كيف يمكنه أن يتحرر أكثر.
اضافةتعليق
التعليقات