بالطُّرقات سائرون، وللأرواحِ باذلون، وعلى حبِّ الحسين مجتمعون، وبالطريق ذاته متجهون، وللدعاء قارئون، وإلى كربلاء قاصدون، تقرّبًا إلى الله راجون، إنّها مسيرة لا تشبه أيّ مسيرة، ومحبّة لا تُقاس بميزان، إنّها خطوات تُسَطَّر على الأرض، وتُكتَب في السماء، حيث تلتقي الأرواح على دروب العشق، وتنعقد القلوب على عهد الولاء.
في هذا الطريق، تختفي الفوارق بين الناس؛ فلا الغنيّ يُعرَف بماله، ولا الفقير يُقصى لفقره، ولا الرجل يُقدَّم لجنسه، ولا المرأة تُؤخَّر لضعفها، بل الجميع يسيرون كتفًا إلى كتف، وقلبًا إلى قلب، وكأنّهم جسد واحد ينبض بحبّ الحسين، فالمرأة في هذه المسيرة ليست مجرّد مرافقة، بل هي شريكة في الهدف، وعمود في هذا البناء الروحي العظيم، فهي التي تعدّ الزاد، وتقدّم الماء، وتطبب السائرين، وتوزّع الابتسامات على الوجوه المتعبة، وهي التي تسير بأقدامها الحافية أحيانًا، لا تخشى وعورة الطريق، لأنّ روحها تعانق السماء في كل خطوة.
فكم من أمِّ تحمل طفلها بين ذراعيها، تمشي على أرض المسيرة لتعلّمه منذ نعومة أظفاره أنّ الحسين ـ عليه السلام ـ ليس ذكرى عابرة، بل هو حياة متجدّدة في كلّ يوم، وأنّ الولاء لا يُؤجَّل إلى الكبر، بل يبدأ من أول نبضة في القلب، ومن هنا يمكن مناقشة رغبة البعض في عدم خروج النساء إلى طريق السير على الأقدام، أو عدم خروجهن إلى الزيارة، لتكون الإجابة كيف لا تخرج وهي المدرسة الأولى، ومن سيعلم الأبناء على السير في طريق الدين والعقيدة الصحيحة، من سيزرع في قلوبهم حب الإمام الحسين (عليه السلام) منذ تكون لَبَنات عقولهم الأولى، ومن سيغرس فيهم قواعد العشق الأبدي؟
وكم من شابة تسير وسط الجموع، تردّد معهنّ الهتاف، وتشارك في الدعاء، وتقدّم طعامًا أو دواءً، وكأنّها تقول للعالم: نحن بنات زينب، وحفيدات فاطمة، نحمل الرسالة ونسير بها إلى غاية لا تنتهي.
على دروب العشق، تختفي الحدود الجغرافية، فيسير العراقيّ جنبًا إلى جنب مع الإيراني، والهندي مع الباكستاني، والعربي مع الأعجمي، جميعهم يتحدثون لغة واحدة، هي لغة الحب والولاء، التي يفهمها القلب قبل أن تنطق بها الشفاه.
تسير المرأة في المسيرة وهي تعلم أنّها امتداد لذلك الموكب النسوي العظيم الذي خرج من كربلاء قبل قرون، موكب السبايا بقيادة العقيلة زينب (ع)، التي حوّلت محنة السبي إلى منبر، والدموع إلى خطاب، والألم إلى انتصار خالد، إنما الطريق إلى كربلاء ليس طريقًا من تراب وحصى فقط، بل هو طريق من القيم والمبادئ، من الصبر والتضحية، من الإيثار والكرم. كم من بيت يفتح أبوابه في هذه الأيام لكلّ غريب، وكم من امرأة تُعِدّ الطعام لسائرين لم ترَهم من قبل، ولن تراهم بعد ذلك، لكنّها تفعل هذا وكأنّهم أبناؤها وإخوتها.
على هذا الدرب، يتعلّم الإنسان أنّ العطاء لا يحتاج إلى ثراء، وأنّ الخدمة لا تنتظر الشكر، وأنّ البذل من أجل الحسين هو بذل لله وحده. المرأة حين تقدّم كأس الماء، أو قطعة الخبز، أو حتى كلمة طيبة، إنّما تقدّمها كقربان حبّ، وكعهد وفاء، ولعلّ أجمل ما في هذه المسيرة أنّها تذكّر المرأة بموقعها في التاريخ الإسلامي الحقيقي، حيث كانت شريكة في كلّ معركة، وصانعة لكلّ موقف عظيم. وكربلاء هي النموذج الأسمى لذلك، حيث كانت النساء هنّ الحافظات للرسالة، والناقلات للحقائق، والمرابطات على ثغور الصبر، إنّ هذه المسيرة، التي يشارك فيها الملايين من النساء والرجال، هي في جوهرها مدرسة عظيمة، تدرّس دروس الحب والإخلاص، وتعيد صياغة مفاهيم الحياة. ففيها يتعلّم السائر أنّ قيمة الإنسان ليست بما يملك، بل بما يعطي، وأنّ القرب من الحسين هو قرب من القيم الإلهية الكبرى.
وفي نهاية الطريق، عندما تلوح قبة الحسين الذهبية، وتبدأ العيون تدمع بلا إرادة، تدرك المرأة أنّ كل خطوة مشتها كانت سجدة شكر، وأنّ كل وجع شعرت به في قدميها كان وسامًا على صدرها، وأنّها حين وصلت لم تصل إلى مكان، بل وصلت إلى جنة من جنان الله على الأرض، هناك عند الضريح، ترفع المرأة يديها بالدعاء، تدعو لأبنائها بالصلاح، لزوجها بالثبات، لوطنها بالأمن، ولأمّتها بالنصر، وتعلم أنّ الحسين يسمع من أحبّه، وأنّ الله لا يردّ من جاءه بقلبٍ مخلص.
إنّ لقاءنا على دروب العشق ليس حدثًا عابرًا، بل هو موعد سنوي يتجدّد فيه الولاء، وتتجدّد فيه العهود. وفي كل عام، تعود المرأة من كربلاء محمّلة بروح جديدة، وعزيمة أقوى، ورسالة أسمى، لتواصل حياتها وهي تعلم أنّها على طريق الحسين، وأنّ كلّ الطرق التي تؤدّي إليه هي طرق إلى الله.
فطوبى لكل امرأة سارت في هذا الدرب، طوبى لكل قلب عشق الحسين حتى أذابته المحبة، طوبى لكل يد خدمت زائرًا أو حملت راية، طوبى لكلّ من فهم أنّ حبّ الحسين ليس شعورًا يختبئ في القلب، بل هو فعل يترجم على الأرض، وخطوة ثابتة نحو الخلود.
اضافةتعليق
التعليقات