تشير المعرفة الظاهرة في الاستخدام الشائع إلى ذلك النوع من المعرفة الذي كان ضمنيًا في الأصل، ثم جرى تقنينه وتنظيمه وصياغته في صورة قابلة للتواصل والنقل. وفي التفكير العام، تُفهم المعرفة الضمنية أو غير المنطوقة على أنها مخزون كامن في ذاكرة الأفراد، أشبه بـ”بنك” معرفي ثري، ينبغي فتح أبوابه لاستخلاص ما يحتويه، وتنظيمه، ثم إشراك الآخرين فيه.
غير أن هذا التصور يختلف جذريًا عما يطرحه الفيلسوف مايكل بولاني بشأن البعد الضمني للمعرفة. فالمعرفة الضمنية، من منظوره، ليست مستودعًا للمعلومات أو ذاكرة خاملة، بل هي ذكاء وإدراك وقدرات داخلية على الاستدلال والفهم. ولذلك يرى بولاني أنه لا يمكن تحويل المعرفة الضمنية إلى معرفة ظاهرة، ولا توجد حاجة ملحّة إلى ذلك أساسًا.
ويؤكد بولاني أن الاشتراك في المعرفة الضمنية يمثل الركيزة الأساسية لأي فعل اتصالي، إذ يتم هذا الاشتراك عبر تشاركات غير منطوقة، تتمحور حول إدراكات أولية عميقة، وتتجلى من خلال التفاعل الإنساني. ووفقًا لهذه الرؤية، لا يحدث انتقال خطي أو تدرّج متسلسل من المعرفة الضمنية إلى المعرفة الظاهرة، بل إنهما يشكّلان معًا جانبين متلازمين في عملية معرفية واحدة. وعليه، فإن أي عملية تواصل تتضمن في آنٍ واحد اتصالًا ملفوظًا أو صريحًا، واتصالًا ضمنيًا غير منطوق.
ويرى بولاني كذلك أن البشر يكتسبون المعرفة الصريحة من خلال الخلق أو التوليد، ومن خلال تنظيم خبراتهم وتجاربهم العملية. ومن هنا فإن المعرفة التي يمكن التعبير عنها بالكلمات والأرقام، أي تلك التي تستخدم الرموز الاتصالية، لا تمثل سوى جزء ضئيل من مجموع المعرفة الإنسانية. وكما يعبّر بولاني عن ذلك بقوله الشهير: “نحن نعرف أكثر مما نستطيع قوله.”
أما في نظرية المعرفة التقليدية، فغالبًا ما تُشتق المعرفة من الفصل بين الذات وموضوع الإدراك، وهو ما أُسس عليه مفهوم الموضوعية، بحيث يُعد تقليص تدخل العامل الشخصي معيارًا لنجاح العملية المعرفية. وبحسب هذا التصور، يكتسب الإنسان المعرفة من خلال تحليل الموضوعات الخارجية بصورة محايدة.
في المقابل، يرفض بولاني هذا الفصل الحاد، ويذهب إلى أن البشر يخلقون المعرفة من خلال الانغماس الذاتي والالتزام، عبر تفاعل حيّ ومباشر بين الإنسان وموضوع المعرفة. ويرى أن الفصل بين الدارس والمدروس فصلٌ تعسفي لا يعكس حقيقة العملية المعرفية. ويطلق بولاني على هذا النمط من الفهم مصطلح “التماذج”.
ويقصد بالتماذج أن معرفة الشيء تتم عبر بناء صورته الذهنية من خلال دمج مفرداته وتفاصيله في شكل كلي ذي معنى. ويتطلب هذا الفهم اتحاد الإنسان مع عناصر المعرفة، بحيث لا يكون الإدراك مجرد نشاط ذهني منفصل، بل تجربة متكاملة يشترك فيها العقل والجسد معًا. وبهذا المعنى، تحطم عملية التماذج التقسيمات الثنائية التقليدية، مثل الفصل بين العقل والجسد، وبين العقلانية والانفعال، وبين الذات والموضوع، بل وحتى بين العلم والمعلوم.
ويخلص بولاني من ذلك إلى أن الموضوعية العلمية ليست المصدر الوحيد للمعرفة، وأن معظم معارف الإنسان هي في جوهرها ثمرة سعيه المقصود والهادف في تفاعله مع العالم.
لو طبقنا هذا الكلام على منشأة ما أو أسقطناه على ما يدور فيها يساعدنا ذلك على الفهم، فالمؤسسة يمكن النظر إليها على أنها سياق تاريخي واجتماعي معين يتشارك أعضاؤها المعلومات التي ينشئون منها المعرفة الاجتماعية، وهو ما يؤثر بدوره على حكمهم على الأمور وسلوكهم واتجاههم، وبالمثل فإن الرؤية المؤسسية التي يطرحها القائد كاستراتيجية تندمج تنظيمياً في المعرفة من خلال تفاعل أعضاء المنظمة مع البيئة وهو ما يؤثر بدوره على سلوك أعمالها.








اضافةتعليق
التعليقات