يمثل الأول من شهر رجب الأصب فجراً متجدداً في تاريخ الأمة الإسلامية حيث تزدان الدنيا بذكرى ولادة الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) ذلك العظيم الذي ورث علم النبيين وجمع في عروقه طهر الإمامين الحسن والحسين ليكون حلقة الوصل الكبرى في حفظ الرسالة وصيانة الشريعة من التحريف والضياع فجاءت حياته كالنهر الجاري الذي لا ينضب من المعارف واللطائف الربانية التي أحيت القلوب وأنارت العقول في وقت كانت فيه الأمة تتوق إلى من يجمع شتاتها الفكري ويهديها إلى صراط الله المستقيم بأسلوب يمزج بين هيبة الإمامة وتواضع العلماء وعمق الحكمة النبوية الأصيلة.
إن المتأمل في سيرة الإمام الباقر (عليه السلام) يجد نفسه أمام مدرسة تربوية متكاملة تتجاوز حدود الزمان والمكان حيث لم يكتفِ الإمام بنشر الأحكام الفقهية بل وضع قواعد دقيقة لبناء الشخصية الإنسانية السوية ومن أهم تلك القواعد هي الدعوة إلى الورع والاجتهاد والتمسك بالصدق في القول والعمل إذ كان يحث أتباعه دوماً على أن يكونوا دعاة صامتين بأخلاقهم قبل ألسنتهم مؤكداً أن التقوى هي الحصن الحصين الذي يحمي الإنسان من مزالق الهوى كما تضمنت نصائحه الغالية توجيهات حكيمة في إدارة العلاقات الاجتماعية حيث كان يوصي بالتغافل عن عثرات الآخرين والابتعاد عن الخصومة والجدال الذي يوغر الصدور ويقطع أواصر المودة والمحبة بين المؤمنين ويدعو إلى الصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء معتبراً أن الإيمان الحقيقي يتجلى في الرضا بقضاء الله وقدره والعمل الدؤوب من أجل عمارة الأرض ونشر الخير والعدل والرحمة بين الناس كافة دون تمييز أو إقصاء.
وتمثل مدرسة الإمام الباقر العلمية ثورة معرفية كبرى كسرت قيود الجهل وفتحت آفاقاً واسعة للبحث والتفكر حيث استطاع بعبقريته الفذة أن يخرج جيلاً من العلماء والفقهاء الذين حملوا مشاعل النور إلى شتى بقاع الأرض وكان يؤكد في وصاياه لطلابه على ضرورة إخلاص النية لله تعالى في طلب العلم وأن يكون الهدف هو نفع البشرية وليس المباهاة أو طلب الدنيا ومن هنا تبرز نصيحته الخالدة بضرورة الحفاظ على الوقت واغتنام فرص العمر في طاعة الله وخدمة خلقه محذراً من الكسل الذي يضيع الحقوق والضجر الذي يفقد الإنسان توازنه النفسي والروحي مما يجعل من منهجه عليه السلام منهجاً واقعياً قابلاً للتطبيق في كل زمان لتحقيق السعادة في الدارين وتجاوز الأزمات الأخلاقية والمعرفية التي تعصف بالمجتمعات.
واليوم نجد أنفسنا مدعوين أكثر من أي وقت مضى إلى تحويل هذه الذكرى من مجرد احتفال عابر إلى انطلاقة حقيقية نحو التغيير الذاتي والمجتمعي من خلال الاقتداء بحلمه وعلمه وكرمه الذي لم يعرف الحدود فالسلام على باقر علم النبيين يوم ولد في المدينة المنورة فملأها نوراً ويوم جاهد بالعلم والحجة والبيان ويوم رحل إلى جوار ربه وبقي ذكره مخلداً في ضمير الأحرار ومناراً لكل الباحثين عن الحق والفضيلة ونسأل الله العلي القدير أن يرزقنا شفاعته والسير على نهجه القويم في الدنيا والآخرة.








اضافةتعليق
التعليقات