من المؤسف أن كثيراً من المسلمين اليوم يتعاملون مع القرآن الكريم وكأنه كتاب للتبرّك والتلاوة فقط، يُقرأ في المناسبات أو يُزيّن به الرفوف، بينما المقصد الأعظم من نزوله هو أن يكون منهاج حياةٍ يوجّه الفكر والسلوك، ويهدي القلب والعقل إلى الصواب.
القرآن ليس كتاب تاريخٍ يُقرأ لتذكّر الماضي، ولا كتاب طقوسٍ يُتلى بلا فهم، بل هو مشروع إلهي متكامل لصناعة الإنسان الصالح وبناء المجتمع القويم. قال الله تعالى:
«كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ»
فغاية التلاوة ليست مجرد تحريك اللسان، بل تحريك القلب والعقل معاً نحو العمل بما جاء فيه.
لقد غيّر القرآن مجرى التاريخ حين نزل على النبي محمد «صلى الله عليه وآله»، لأنه لم يكن يُتلى فحسب، بل كان يُفهم ويُطبَّق. فجيل أصحاب النبي «رضي الله عنهم» لم يتجاوزوا عشر آيات حتى يعملوا بما فيها من علمٍ وعملٍ وإيمان. كانوا يرون في كل آية توجيهاً، وفي كل أمرٍ تكليفاً، وفي كل نهيٍ حدوداً تحفظهم من الزلل. وهكذا تحوّل القرآن في حياتهم إلى دستورٍ يوميٍّ يضبط معاملاتهم، وينير لهم طريقهم في العبادة، والعلاقات، والعدل، والرحمة.
أما اليوم، فقد ابتعد كثيرون عن هذا الفهم العميق، فصار القرآن حاضراً في أصواتنا وغائباً عن أفعالنا. نقرأ آيات الصدق ثم نكذب، وآيات العدل ثم نميل، وآيات الرحمة ثم نقسو. إنّ هذا الانفصال بين التلاوة والتطبيق هو السبب في ضعف الأثر الإيماني في مجتمعاتنا. فليس المقصود من حفظ القرآن تزيين اللسان، بل تزيين السلوك والأخلاق.
حين نقرأ قول الله تعالى:
«إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ»
يجب أن ندرك أن الهداية لا تتحقق بالقراءة فقط، بل بالاتباع. إن القرآن يوجّهنا إلى الصدق في القول، والإخلاص في النية، والعدل في الحكم، والرحمة في التعامل. إنه يُعلّمنا كيف نعيش إنسانيتنا بأبهى صورها.
القرآن يريد أن يُخرِج الإنسان من ظلمة الغفلة إلى نور الوعي، ومن عبودية الشهوات إلى عبودية الله. فإذا جعلناه رفيق يومنا، استقامت حياتنا، وامتلأت قلوبنا طمأنينةً ونوراً. وإن أعرضنا عنه، ضاعت البوصلة، كما قال تعالى:
«وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً»
فلنجعل من القرآن برنامجاً تربوياً نعيشه في أخلاقنا، في بيوتنا، في أعمالنا، وفي تعاملنا مع الناس. نقرأه بعين المتعلّم، ونعيه بعقل المتفكّر، ونتلوه بقلب العامل.
ليس الشرف أن نحمل المصحف في أيدينا، بل أن نحمله في سلوكنا. فكل من جعل القرآن مرآة نفسه، رأى في كل آية طريقاً يقرّبه من الله.
وهكذا يصبح القرآن منهج حياة لا يُقرأ فقط، بل يُعاش فيبتسم به اللسان، ويهتدي به القلب، ويزكو به الإنسان.








اضافةتعليق
التعليقات