تخيل أنك ربحت مبلغاً كبيراً في الصباح، ثم فقدت نصفه في المساء؛ لماذا ستشعر أنك خاسرٌ رغم أنك لا تزال تملك النصف الآخر؟ ولماذا يطغى ألم الفقد على لذة الكسب حتى وإن تساوت الأرقام؟ نحن لا نعاني من نقص النعم، بل نعاني من برمجة نفسية غريبة تجعلنا نرى الثقوب في الثوب ولا نرى الثوب نفسه. في هذا المقال، سنفكك شفرة نظرية 'النفور من الخسارة' لنكتشف كيف تحولت عقولنا إلى سجون للمفقود، وكيف يحررنا الوعي الروحي من هذا الفخ.
كيف سيكون شعورك لو حصلت على علاوة في عملك بمقدار خمسين ألف دينار؟ ستشعر بالسعادة بلا شك، ولكن ماذا لو كنت ذاهبًا للسوق وأدخلت يدك في جيبك ووجدت أن أموالك تنقصها ورقة نقدية فئة 50 ألف دينار؟ كيف سيكون شعورك حيال ذلك؟ بالتأكيد ستشعر بحزنٍ أكبر بكثير من تلك السعادة التي شعرت بها عند الربح!
لماذا يكون مقدار الشعور بالحزن لدينا أضعاف شعور السعادة؟ ولماذا لا نفرح بالأمور الكثيرة التي نملكها، ولكننا نغرق في الحزن جراء الأمور التي نفقدها؟
لأن كل شيء في هذه الحياة له تفسير، فإن هذا الأمر يخضع لنظرية تُدعى "النفور من الخسارة" (Loss Aversion)، والتي تمثل مفهومًا أساسيًا في الاقتصاد السلوكي؛ إذ تشير إلى أن الألم الناتج عن خسارة شيء ما يكون أقوى بكثير من المتعة الناتجة عن كسب شيء مماثل له. هذا الألم هو ما يدفع الناس لاتخاذ قرارات غير عقلانية لتجنب الخسائر، مثل التمسك بصفقات خاسرة أو تجنب المخاطرة حتى لو كانت الفرصة لتحقيق ربح كبير موجودة، وهي النظرية التي قدمها العالمان "دانيال كانيمان" و"عاموس تفرسكي".
ولكن بعيدًا عن لغة الأرقام والصفقات، هل هذا الأمر حاضر في حياتنا اليومية؟ قطعًا نعم؛ فالأموال والأبناء والصحة هي من الهبات التي يرزقنا الله بها ونفرح بها، ولكن إذا فقدنا أحدها يكون حزننا أضعافًا مضاعفة. وهنا يبرز الفارق؛ فبينما تفسر الفرضيات البشرية طبيعة المشاعر، يأتي القانون الإلهي ليرتقي بالإنسان فوق هذه النوازع. فإذا استطاع المرء أن يستشعر نعم الله تعالى عليه بيقين، حينها سينقلب مفهومه للسعادة جذريًا.
المشكلة الحقيقية هي أن الإنسان أصبح ناقمًا على حياته رغم وجود سقف يؤويه، وعملٍ يدبر من خلاله قوت يومه، وأولادٍ صالحين، وصحة جيدة؛ ورغم كل هذه الهبات التي مُنحت له بالمجان، إلا أنك تراه تعيسًا! وهنا لا يمكننا إلقاء اللوم على نظرية "النفور من الخسارة" وحدها؛ لأن هذه النظرية تفسر "المخرجات" (ردة الفعل تجاه الفقد)، ولا تفسر "الأساس" الذي بُني عليه الوعي الإنساني والمدخلات النفسية.
لقد أعطانا المولى علي (عليه السلام) وصفةً سماوية نستطيع من خلالها التماس النعم ومحاربة الغفلة، وهي "ذكر هادم اللذات"، والتأكيد على زيارة القبور والمستشفيات. فالإنسان عندما يزور المستشفى ويرى المرضى وقد أنهش الألم أجساد الصغار والكبار، سيبصر نعم الله عليه وعلى أهله بالعافية، وسيعرف قيمتها الحقيقية، فيتحول أنينه شكراً، والله قد وعد الشاكرين بالزيادة.
فعندما يرى المريض ممددًا على سرير العجز، سيعرف قيمة الوقت الذي كان يقضيه "متململًا" بين عائلته. وعندما يذهب إلى القبور وينظر إلى الأسماء التي خطفها الموت غفلة، سيعتبر ويشكر الله على فُسحة العمر، ويرى أن الدنيا بكل مغرياتها وجاهها لا تساوي شيئاً أمام لحظة وعي واحدة.
كل هذه الممارسات ترفع "غشاء الغفلة" عن العين لتجعل الإنسان يرى ما لم يره من قبل. ولعلَّ أقسى وأصدق مثالٍ يتجلى أمامنا اليوم هو مشهد الصمود في غزة؛ فبينما نغرق في تفاصيل يومنا الصغيرة، ينام أطفالهم في خيامٍ قماشية لا تقي برد الشتاء، وقد نَحلت أجسادهم حتى لم يعد يستر عظامهم إلا الجلد بسبب حصار الجوع وسوء التغذية.
إنَّ هذا المشهد الكاشف هو الذي يمزق غشاء الغفلة عن بصائرنا، ويجبرنا على إعادة تعريف (الخسارة والربح) في حياتنا. فحينها فقط، ستدرك أنَّ الرصيد الحقيقي ليس في ميزانك البنكي، بل في "الأمان" الذي يحيط ببيتك، و"الشبع" الذي يملأ جوف طفلك، و"العافية" التي تسكن جسدك. حينها، لن يلهج لسانك إلا بالحمد، ولن يمتلئ قلبك إلا بالرضا، مدركاً أنَّ أعظم النعم هي تلك التي ألفناها حتى نسينا قيمتها.








اضافةتعليق
التعليقات