فاطمة هي الروح والريحان، وهي مبدأ كل صلاة، ولا يكتمل إيمان دون معرفة فاطمة، ولا علو شأن إلا بقبول ولايتها؛ لأنها الشأن الذي يقول للشيء “كُن” فيكون، وإليها تُنسب كل مفردات الخير وأفعال البر. وهي الدُّرّ المنضود؛ إن قلنا حوراء فهي الإنس الذي لا بديل له في الخلائق، وإن واسينا الحروف كانت هي أمّ المصائب.
لقد منحت المصاب صبغته، ورمّمت جراحه بدموعها، ورسمت لطريق الولاية كهفًا يلجأ إليه جميع الخلائق.
العزاء بحق بضعة الرسول هو عزاء الله وملائكته ورسله، وكل الأنبياء.
وتعزّ على جنبات الخُلد وأطواد الكائنات أن تبكي على السكينة يوم فقدها وهي غاضبة.
الحديث عن فاطمة الزهراء يعني خوض غمار المسؤولية، يعني أن نُثار، وأن نقول الحقيقة ونتحمّلها في سبيل فاطمة.
يعني أن تبكي جوارحنا حزنًا، وتئنّ أقلامنا بهذه الغصّة التي عاشها قلب الحجة المنتظر أرواحنا فداه.
أن تكتئب نفوسنا وتتعطش عيوننا لبركان الدموع، فالزهراء ميزان الالتزام بالمبدأ، هي الوقت الموقوت، والعهد المعهود.
إن بكينا فبفاطمة نبدأ، وإن لطمنا فلحبها تجول المعاصم حزنًا وغَمًّا… أن نقول كلمتنا.
فما هي الكلمة؟ وكيف نبدأ؟
الكلمة باختصار: انضباط الحرف وإيراد معناه المطلوب.
فإن تكلّمنا عنينا أمرًا وحدّدنا هدفًا، وشخّصنا طريقًا يناسب الحرف.
فالحروف بإعدادها تمثل جوهر الفكرة، وبالتالي صلابتها وقدرتها على النفاذ إلى القلوب، وسلطتها على وتر الإحساس.
فاطمة الزهراء وزوجها الوصي علي بن أبي طالب أمراء الكلام.
هم الكلمة وتوازنها؛ بعلمهم صار للكلمة معنى، وبفضلهم تقدّست الكلمة.
تكلموا فسجدت الخلائق لأنوارهم، ومن نورهم ارتقت مدارج الكلمة حتى توارثها الأنبياء والرسل والأولياء.
وبأمرهم انبعث نور العلم من الكلمة؛ علمٌ وكلمة يعنيان إبداعًا لا مثيل له، وقوة لا نظير لها، لأنهم كلمة الله تعالى.
في شخصية الزهراء سلام الله عليها اجتمع الكلم الطيب، وامتاز بالمعنى القويم الذي يرتبط مباشرة بالعمل الصالح، فيرفعه علوا كريمًا.
لقد استخدمت مولاتنا الزهراء أسلوب إيعاز الضمير وتحفيزه لمبدأ الطاعة والوجدانية عبر الكلمة، وربطت مفرداتها بهدف الموقف.
ومزجت الحروف بتكليف بلاغي فريد؛ فإذا خطبت كان لسانها لسان أبيها رسول الله (ص)، وكأن كلامها يجاري الزمن، ويخاطب المستقبل، ويبشّر ويحذّر، كأنها تكلم الأجيال اللاحقة.
فأظهرت واجهة الكلمة، وألبستها ثوب الإعجاز والنورانية، ووهبتها أسرارًا ولطائف تغزو ذهن المستمع وإدراكه.
ولهذا، إن نطقت سكتوا، وإن تكلمت بكوا وحنّوا… فكل كلماتها ومواقفها وحكمتها توّجت بالقول الثابت.
العلاقات الاجتماعية
تعد السيدة الزهراء (ع) نموذجًا متقدمًا في الصفات العالية التي لا يضاهيها أحد.
فقد غذّت المجتمع بالمضمون التربوي الأخلاقي، وصبغت الحياة بالأدب النبوي الشريف، وأعطت نتاجًا قيمًا يغمر النفس بالهدوء والطاعة والصبر والقناعة.
ولطفها مع أمير المؤمنين (ع) مثال يُروى، ففي البحار عن أبي سعيد الخدري:
دخل عليٌّ على فاطمة، فقال: “يا فاطمة هل عندك شيء نُغذيه؟”
فقالت: “لا والذي أكرم أبي بالنبوة وأكرمك بالوصية، ما أصبح عندي شيء.”
فقال: “هلا أعلمتِني فألتمس لكم شيئًا؟”
فقالت: “يا أبا الحسن، إني لأستحيي من الله أن أكلّفك ما لا تقدر عليه.”
قدّمت الزهراء نموذجًا للعقلية المتوازنة، وأثّرت في الواقع ليَتشرب صفاتها الطيبة.
فصنعت مجتمعًا مدنيًا قائمًا على الثوابت، وأنعشته بالعلم والمعرفة والنهج القرآني، وكانت تكفل الأيتام، وتعلّم النساء، وتبصّرهم بالرأي الاجتماعي والأسري والنفسي، لتحدّ من الخلاف والتخلّف، وخصوصًا بين صفوف النساء لما له من تأثير كبير على مسيرة الحياة.
لقد امتلكت الزهراء عقلًا حكيمًا وعطفًا شاملًا، فكانا مشكاة في مصباح… كأنها كوكب دُرّي.
وكان رسول الله (ص) يقول لها:
“يا فاطمة، اعملي؛ فإني لا أغني عنك شيئًا غدًا.”
صنع القرار
تميزت الزهراء (ع) في اتخاذ القرار بحسب طبيعة الموقف؛ مع زوجها أمير المؤمنين، مع أبيها الرسول، مع أبنائها، ومع خادمتها ومن التفّ حولها من النساء.
فلها لكل مقام قرار، ولكل موقف حكمة.
كان لها دور فعال في صنع القرار انطلاقًا من بيتها المبارك؛ فقد فعّلت الأدوار، وأعطت لكل فرد مكانه، وحافظت على التوازن بعيدًا عن الفتور والضيق.
كانت “أم أبيها” لرسول الله، وزوجة صالحة مطيعة لعلي (ع)، وأمًّا حنونًا لأبنائها.
وعن أبي عبد الله (ع):
“كان أمير المؤمنين يحتطب ويسقي ويكنس، وكانت فاطمة تطحن وتعجن وتخبز… وقال: حق المرأة على زوجها أن يسدّ جوعها ويستر عورتها، ولا يصيح في وجهها، فإذا فعل ذلك فقد أدّى والله حقها.”
الدور القيادي للزهراء (عليها السلام)
الزهراء، بلغة الحضارة، هي الوليّة القائدة.
هي حجة الله على الأئمة، وهي سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين.
كان الاعتراف بولايتها شرطًا على كل نبي، وإلا فلا قيادة لأي نبي لأمته.
بعد استشهاد النبي الأعظم، واجهت أخطر المواقف؛ تصدّت لمن هدد بحرق دارها، وأعلنت الحق جليًا، دفاعًا عن ولاية أمير المؤمنين.
كانت قوية صلبة، خصوصًا في لحظات الخطر.
وقد تجلّى دورها القيادي الأعظم في خطبتها الفدكية، تلك الأعجوبة البلاغية التي هزّت المسجد.
بيّنت فيها الحقائق، وصرّحت بأهداف الرسالة، وكشفت انحرافات القوم، وحجّتهم على الأجيال إلى يوم القيامة.
ثبتت بذلك الصورة الخالدة للصوت الفاطمي، وصنعت منبرًا لا يزول.
ولها دورٌ يوم القيامة لا يخفى؛ فهي أول من يفتتح محكمة الخلاص، وأول من يدخل الجنة مع المؤمنين، وقد غضّ الناس أبصارهم لما يشغلهم من الحساب.
وكل هذا نقطة من بحر علمها التكويني الغيبي، الذي حاول أعداء آل محمد دفنه وتشويهه.
ومن دسائسهم تلك الرواية المكذوبة التي نسبوها إلى النبي في أمر زواج علي (ع) بغيرها، وهي افتراء على فاطمة التي غارت منها نساء مكة لفضلها وعلمها وكفاءتها.
فيا أمة السوء، أيّ غيرة تتحدثون عنها؟
هي التي خدمها جبرائيل، وهي سيدة الجنة قبل الأرض، وهي الطاهرة المطهرة، الشافعة، كوثر الله في أرضه.
لولا صبرها يوم العذاب، وخوفها على باب الولاية، وحبها لشيعتها… لانقلب عاليها على سافلها.
لعن الله أمة ظلمتكِ يا فاطمة قولًا وفعلاً،
وحرمها ظلّكِ وشفاعتكِ يوم المحشر.








اضافةتعليق
التعليقات