في زحام هذا العالم المثقل بالضغوط، حيث تتكاثر الأزمات وتتعاظم الجراح الخفية في النفوس، قد تكون أبسط الهدايا التي نقدمها للآخرين كلمة طيبة. كثيرون يظنون أن الكلمة لا تعدو أن تكون صوتًا يتلاشى في الهواء، غير مدركين أنها قد تكون في لحظة معينة أثمن من دواء، وأشد أثرًا من يد العون الممدودة.
الكلمة الطيبة ليست مجرد مجاملة عابرة، بل هي إشعال ضوء في عتمة قلب يوشك أن ينطفئ. إنسان مثقل بهمٍّ أو منكسِر الأمل قد يواجه اليأس كجدارٍ صلب، لكن جملة رقيقة ـ "أنت لست وحدك"، "أنا أؤمن بك"، "ستتجاوز هذا" ـ قد تفتح ثغرة في ذلك الجدار، وتجعل الحياة تستعيد لونها ومعناها.
إن خطورة الكلمات تكمن في قدرتها المزدوجة: فهي قد تُحيي أو تُميت، تُداوي أو تجرح، تُقيم جسرًا أو تهدم جدارًا. والتاريخ البشري مليء بالشواهد التي تؤكد أن أمة نهضت بخطاب محفِّز، وأن أفرادًا أعادوا بناء ذواتهم بفضل كلمة مشجعة. على الضفة الأخرى، كم من الأرواح انكسرت حين وجدت في لحظتها الأضعف كلمةً قاسية دفعتها أكثر إلى هاوية اليأس. إن طريقة الحديث مع الشخص المهموم قد تغيّر مجرى حياته؛ فهو أحياناً لا يحتاج إلى اللوم أو التأنيب بقدر ما يحتاج إلى إنصات صادق وفهم عميق لمشاعره.
فالتعامل مع المشكلات يجب أن يكون بحكمة، إما أن تبحث عن حلّ، أو تحتاج إلى من يمدّها بصبرٍ يخفّف من ثقلها. إننا لا نحتاج دائمًا إلى معجزات لننقذ حياة أحدهم، أحيانًا يكفي أن نقول ما يُنعش الروح ويذكّرها. أن القوة الحقيقية للكلمة الطيبة أنها لا تحتاج إلى ثروة ولا إلى منصب كي تؤثر، فهي متاحة لكل إنسان. قد تصدر من صديق أو قريب أو حتى غريب عابر، لكنها تترك في الذاكرة أثرًا طويل المدى، كالبذرة التي تنمو في صمت ثم تتحول إلى شجرة وارفة الظلال.
الكلمة الطيبة هي مفتاح القلوب وجسر التواصل بين الناس، ولعظم وَقعها ضرب الله بها مَثَلاً: "كشجرةٍ طيّبة أصلها ثابِت وفرعها في السماء" فكم من كلمة أزاحَت همّاً، وبثّت في قلبٍ يائسٍ نوراً ورجاءً، وجعلت من اليأس أملاً، ومن الانكسار قوة.
أما في بناء العلاقات الإنسانية: فالكلمة الطيبة هي وسيلة فعالة لبناء جسور التواصل المحبة بين الناس، وتعزيز الروابط الاجتماعية، وتعكس الأخلاق الحسنة والنوايا الطيبة. فهي صدقة من الله، ولها منزلة رفيعة تُرفع بها الأعمال الصالحة إلى السماء. نحن نحتاج أن نبي لا نهدم، فالكلمة قادرة أن تهدم أسرة وربما مجتمع كامل ينجرف إلى الهاوية بسبب كلمة قد تسقط دول أو تعمر شعوب إذا اجتمعت على كلمة واحدة ووعد صادق.
فالكلمة الطيبة في جوهرها خُلق نبوي ووصية علوية. وقد ورد في عدة رويات وأحاديث الكثير مما يؤكد أثرها العميق:
قال النبي محمد (صلى الله عليه وآله):
"الكلمة الطيبة صدقة".
وقال الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام): "الكلمة الطيبة جواز سفر إلى كل القلوب".
فالقول الحسن هو كل تعبير يحمل في طياته اللطف والاحترام، ويسعى إلى إدخال السرور والسكينة في النفوس، وتقوية الروابط بين الناس. وله قيمة عظيمة في الدين، إذ عُدّ بمنزلة الصدقة، وشُبّه بالشجرة المباركة الراسخة الجذور الممتدة الأغصان، التي تمنح ثمارها على الدوام بإذن الله.
وتتجلى صور الكلمة الطيبة في الذكر والدعاء والصلاة على الرسول الكريم، كما أنها تبعث الأمل وتزيد القلوب قوة وصبراً، لذا لا بد من الحرص على اختيار الألفاظ الراقية عوضاً عن الكلمات الجارحة. ومن هنا ندرك أن الأثر لا يُقاس بعلو الصوت أو قوة الجسد، بل بما يتركه اللفظ الصادق من دفء في أرواح الآخرين.
الكلمة الطيبة قد تُنقذ إنسانًا من هاوية الانكسار، وقد تزرع في داخله يقينًا بقدرته على النهوض. إنها لا تغيّر العالم دفعة واحدة، لكنها تغيّر عالم فردٍ واحد، ثم يمتد أثرها كسلسلة نورٍ لا تنقطع. الكلمة الطيبة إذن ليست مجرد أدبٍ أو خُلق، بل فعل إنقاذ. إنها رسالة إنسانية تُعلن أن هناك دومًا نافذة أمل مهما اشتدت العواصف. وكلما تذكّرنا أن جملة واحدة قد تُعيد إنسانًا من حافة اليأس إلى ساحة الحياة، أدركنا أن مسؤوليتنا تجاه الكلمة أعظم مما نظن.
فلتكن كلماتنا جسورًا، لا جدرانًا، ومفاتيح أمل، لا أبواب قنوط. فربما نكون بكلمة واحدة سببًا في حياةٍ جديدة لقلبٍ كان على وشك أن ينكسر.
اضافةتعليق
التعليقات