في فضاء الزمان المترامي، حيث تتلاقح أنفاس الحكمة مع أنوار القداسة، تطل علينا ذكرى ميلاد كالنسيم العليل يهب من جنات النبوة، حاملاً عبقاً إلهياً ينعش الأرواح الظمأى، إنه بزوغ شمس الإمام محمد الباقر (عليه السلام) من أفق بيت الوحي، كفراشة نور خرجت من شرنقة التاريخ لتُلقي بأجنحتها الذهبية على صفحات الأمة ظلالاً من المعرفة والجمال.
وفي هذه اللحظة الفياضة بالروحانية، تهبط علينا كلماته كطيفٍ من نور، تخترق حجب الزمان لتهمس في آذان الدهر: "قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم"، هي كلماتٌ ليست حروفاً مجردة، بل هي كالندى الرباني يتساقط على تربة القلوب القاحلة، فينبت فيها ورد المحبة وشذى الإنسانية، إنها وصية كالسحر الجميل، تفتح أبواب السماء على قلوب الناس، وتجعل من الكلمة الطيبة جسراً من نور يربط بين الضفة المقدسة للذات والضفة المضيافة للآخر.
الولادة: نشيد النور في زمن الظلمة
ولِد الإمام الباقر (عليه السلام) في رجب الأصب، فكان ميلاده أنشودةً سماوية انطلقت في سماء الدنيا الملبدة بغيوم الجهل والانقسام، لقد جاء في زمنٍ كان العالم الإسلامي فيه كبستان ذابل يحتاج إلى من يسقيه بفيض العلم، ويجني ثمار الحكمة من أشجار الوحي، فكانت ولادته كالفجر الذي يختال على جبين الليل، ينشر خيوطاً ذهبية من المعرفة على صفحات الأمة النائمة، وهذا الفجر الباقري لم يُشرق بنور العلم وحده، بل حمل بين طياته فلسفة جديدة للوجود الإنساني، تختزل في كلمات وصيته الخالدة: "قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم"، إنها ولادة مزدوجة، ميلاد إنسان طاهر من صلب النبوة، وميلاد مبدأ إنساني خالد، يربط السماء بالأرض، والقلب بالقلب.
فلسفة الكلمة: مرآة الروح وجسر القلوب
الوصية الباقرية ليست مجرد دعوة للمجاملة اللفظية، بل هي دعوة عميقة إلى رحلة داخلية نحو أعماق الذات، حيث تلتقي المشاعر الإنسانية المشتركة، وتجعل من القلب مقياساً، ومن الروح مرشداً، "ما تحبون أن يقال لكم"، يا له من معيارٍ سماوي إنه يدعونا إلى أن ننظر إلى الآخرين كما ننظر إلى مرآة أرواحنا، نرى في وجوههم أشواقنا، وفي قلوبهم أمانينا، فالكلمة الطيبة هنا ليست صوتاً يخرج من الشفاه، بل هي نبضٌ يخرج من الأعماق، وومضة نور تنطلق من شمس الروح، إنها الهدية التي لا تكلف درهماً، لكنها تثمر جنة من المودة، وهي اللغة السرية التي تفهمها جميع القلوب، باختلاف ألسنتها وألوانها، ولم يكن الإمام الباقر (عليه السلام) عالماً يفيض علماً وحسب، بل كان شجرة باسقة جذورها في أرض النبوة، وأغصانها في سماء الحكمة، تثمر علماً حلواً وأخلاقاً عطرة.
إن وصيته الخالدة تُذكرنا بأن العلم الحقيقي ليس مجرد معلومات تحفظ في الصدور، بل هو أخلاق تنعكس في السلوك، وحكمة تتمثل في التعامل، فكما بقر العلم بحسب تفسير لقبه الشريف، فشق له مسالك وأظهر خفاياه، فقد بقر أيضاً أغوار النفس الإنسانية، وكشف عن الجوهر المشرق فيها، وهو حاجتها إلى الكلمة التي ترفعها، واللفظة التي تُحييها، إنه جمع بين نور العقل ودفء القلب، فكان عالماً بالإنسان قبل أن يكون عالماً بالعلوم، بل وأصبح نبعاً في صحراء عصرنا اليوم، حيث كثر الضجيج وشحت الكلمات الطيبة، فبرزت وصيته تُعيد للإنسان إنسانيته، وللكلمة قداستها، إنها دعوة صامدة في وجه العولمة الباردة، وثورة ناعمة على قسوة التواصل الافتراضي، وإن الاحتفاء الحقيقي بمولد الإمام الباقر (عليه السلام) ليس بالزينة والأناشيد وحسب، بل بأن نجعله حاضراً في كل كلمة نتفوه بها، وفي كل حرف نكتبه، وأن نحول كلماتنا إلى حدائق غناء، تزهو بأزهار الاحترام، وتعبق بشذى المحبة.
فلتكن ذكرى ميلاد الإمام الباقر (عليه السلام) فرصة نغرس فيها بذرة الكلمة الطيبة في تربة قلوبنا، ونسقيها بماء الوعي، حتى تنمو وتثمر، فالكلمة الطيبة كما علمنا إمامنا هي الوردة التي لا تذبل، والهدية التي لا تبلى، والنور الذي لا ينطفئ، فلنحمل هذه الوصية في قلوبنا كما حملها الإمام الباقر (عليه السلام) منذ ولادته مشعلاً للهداية، ولنجعل من حياتنا قصيدة حب للإنسانية، ننشدها بكلمات طيبة، تكون أصدق تكريم لمولد من جعل من الكلمة صدقة، ومن القول الحسن عبادة، ومن الكلام الطيب جسراً إلى الجنان.








اضافةتعليق
التعليقات