في كل عام يعود الحديث عن العنف ضد المرأة ليكشف وجعًا متجذرًا في التاريخ الإنساني، ولعلّ واحدة من أبكر الصور المؤلمة التي تسكن الوجدان الإسلامي هي ما تعرّضت له السيدة الزهراء (عليها السلام) من ظلم وعدوان أدّيا إلى استشهادها، لتصبح رمزًا خالدًا للمرأة المظلومة التي تدفع ثمن مواقفها وشجاعتها.
واليوم، ورغم كل مظاهر التطور، ما تزال نساء كثيرات يعشن ذات الألم بأشكال مختلفة؛ عنفًا أسريًا، أو تمييزًا، أو إهمالًا، أو قمعًا اجتماعيًا، أو استغلالًا اقتصاديًا. ومن هنا أصبح الحديث عن حماية المرأة ليس ترفًا، بل ضرورة حياة تسعى المجتمعات الواعية لترسيخها.
المجتمع والمرأة
تحدّثت السيدة ابتهال الحسيني، مدرّبة في التنمية البشرية، قائلة:
“إن قصة الزهراء (عليها السلام) تعطينا درسًا مهمًا؛ فالمرأة ليست ضعيفة، إنما هي قوية لكنها تحتاج مجتمَعًا ينصفها. وكل امرأة تتعرض للعنف اليوم تعيش جزءًا من تلك المظلومية، لذلك يجب أن يكون لنا موقف واضح بوجه أي إساءة.”
وأضافت:
“ولأننا اليوم في عصر الحداثة، نواكب أشكالًا مختلفة من التعنيف ضد المرأة، بعضها ينتشر بسرعة عبر وسائل التواصل، لذلك تسعى الجهات المعنية إلى نشر الوعي والتحذير من أي عنف، والتحجيم منه بما يناسب مجتمعنا وعقائدنا الدينية.”
وقالت سارة رعد، إحدى المشاركات في حملات التثقيف ضد العنف:
“نحن نشاهد ونسمع يوميًا قصص عنف مؤلمة، والأقسى من ذلك أن تُسلب بعض النسوة حقوقهن، خصوصًا حين تقدّم إحداهن شكوى، فيلومها المجتمع تحت ذريعة (عيب.. تحمّلي).”
وتابعت:
“إن مظلومية الزهراء (عليها السلام) تعلّمنا أن المرأة قد تكون صاحبة حق، لكن السلطة أو المجتمع لا ينصفانها دائمًا، لذلك يجب أن نكون صوتها الذي لا يفنى.”
مشكلة فردية؟
وترى الباحثة الاجتماعية آلاء عبد الكريم أن العنف ضد المرأة ليس مشكلة فردية، بل هو نتاج ثقافة تتسامح مع الاعتداء.
وتضيف: “عندما نربط الموضوع باستشهاد السيدة الزهراء (عليها السلام) نفهم أنه ظلم تاريخي متكرر، وأن الحل يبدأ من تغيير الفكر، لا من سنّ القوانين فقط.”
العرف الاجتماعي
ويشاركهم الرأي المحامي حسين الركابي، المتخصص في قضايا العنف الأسري، قائلًا:
“القوانين العراقية تتضمن مواد تجرّم الاعتداء الجسدي واللفظي، لكن أغلب قضايا العنف تحكمها الأعراف الاجتماعية أكثر من القانون، وغالبًا ما تُحل عشائريًا.”
وأضاف:
“إن العنف الذي تعرّضت له السيدة الزهراء (عليها السلام) يحمل رسالة قانونية مهمة؛ وهي أن غياب الحماية والعدالة هو ما يسمح باستمرار الظلم. واليوم نحن بحاجة إلى قانون يُلزم الدولة والمجتمع بتوفير بيئة آمنة للمرأة، ويمنع التسامح مع أي نوع من الإساءة، ويضمن للضحية حقها في المحاسبة وعدم التنازل تحت الضغط الاجتماعي أو العائلي.”
الظلم ليس قدرًا
وتوضح الاستشارية النفسية نور مكي الحسناوي أن العنف ضد المرأة يترك آثارًا تتجاوز الجسد؛ فالمرأة التي تتعرض للعنف تعيش صراعًا داخليًا بين الخوف والرغبة في النجاة، وقد تصاب باضطرابات مثل القلق، وفقدان الثقة بالنفس، واكتئاب ما بعد الصدمة، أو الانسحاب الاجتماعي.
وتتابع:
“إن ربط هذه التجارب بمظلومية السيدة الزهراء (عليها السلام) يخلق شعورًا بالتماهي لدى النساء، لكنه في الوقت نفسه يعزز لديهن الإحساس بأن الظلم ليس قدرًا، بل حالة تستدعي المقاومة. فالدعم النفسي يبدأ من الاستماع للضحية، ثم منحها شعورًا بالأمان وتمكينها نفسيًا واجتماعيًا للخروج من دائرة العنف وإعادة بناء صورتها الذاتية.”
اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة
يُحيى اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة في 25 تشرين الثاني من كل عام، وقد اعتمدته الأمم المتحدة عام 1999 تخليدًا لذكرى الأخوات ميرابال في الدومينيكان، اللواتي اغتيلن بوحشية عام 1960 بسبب مواقفهن الوطنية والسياسية.
أصبح اغتيالهن رمزًا عالميًا للعنف السياسي والاجتماعي ضد المرأة.
ويؤكد هذا اليوم أن العنف ضد المرأة قضية من قضايا حقوق الإنسان، ويدعو إلى تغيير ثقافة الصمت والخوف، وتعزيز تشريعات الحماية والمساءلة، وخلق وعي عالمي بأن سلامة المرأة جزء من سلامة المجتمع واستقراره، بالإضافة إلى فتح المجال أمام النساء ليروين قصصهن دون خوف من التهميش أو اللوم.
أبعاده المتنوعة في حضرة الزهراء (عليها السلام)
لهذا اليوم أبعاد ترتبط بمظلومية السيدة الزهراء (عليها السلام):
• البعد التاريخي: يكشف أن العنف ضد المرأة ليس حدثًا طارئًا، بل كان موجودًا حتى في المجتمعات الأقرب للنبوة.
• البعد الفكري: يوضح قيم العدل والإنصاف واحترام كرامة المرأة، وهي قيم جسدتها السيدة الزهراء (عليها السلام) وانتهكت عندما تعرّضت للأذى.
• البعد التربوي: يحوّل الحادثة من واقعة تاريخية إلى درس تربوي يُغرس في الوعي: لا أحد يمتلك حق تعنيف المرأة مهما كان السبب.
• البعد الاجتماعي: يبيّن أن استمرار العنف حتى اليوم يعني أن جذور المشكلة لم تُقتلع بعد، وأن المجتمع يحتاج مراجعة وتوعية أوسع.
العدالة لكل امرأة
إن استحضار مظلومية السيدة الزهراء (عليها السلام) عند الحديث عن العنف ضد المرأة ليس تسطيحًا للموضوع، بل تذكير بأن الظلم يتكرر حين يصمت الناس.
واليوم، وفي زمن يُحتفى فيه باليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة، يصبح واجبًا دينيًا وإنسانيًا أن يتحول الحزن إلى وعي، والوعي إلى فعل، والفعل إلى حماية وعدالة لكل امرأة.
فلا كرامة لمجتمع يُهدر كرامة نسائه، ولا نهضة تُقام دون أن تكون المرأة فيه آمنة، معززة، ومصانة.








اضافةتعليق
التعليقات