هل جربت ذات ليلة أن تقف في عتمة الوجود حائرًا، تبحث عن بصيص نور يهديك إلى شاطئ الأمان؟ هل شعرت بذلك الظمأ الروحي الذي لا ترويه مياه الدنيا، وذلك الشوق الذي لا يطفئه إلا لقاء الحبيب؟
إن كان جوابك نعم، فهلمّ معي في رحلة إلى حديثٍ ينير الدرب؛ حديث يجعل من ليلة في عمر الليالي كنزًا لا يعادله كنز، ويجعل من معرفة امرأة مفتاحًا للغيب والوجود.
هي الجوهرة التي اختزنت سرّ القدر… فاطمة بنت محمد (صلوات الله وسلامه عليها)، منحوتةٌ في حديث ينبوع الحكمة وسليل النبوة الإمام الصادق عليه السلام، في كلمات تزلزل كيان المؤمن وتوقظ فيه أعمق المشاعر:
“مَنْ عَرَفَ فَاطِمَةَ حَقَّ مَعرِفَتِهَا فَقَد أَدرَكَ لَيلَةَ الْقَدرِ.”
توقف هنا قليلًا…
لا تمرّ على هذه الكلمات مرور العابرين؛ فهي ليست جملة تُقرأ، بل كونٌ يُستكشف.
ما أغرب هذه المقارنة وأعجبها! إنها ليست مقارنة بين شيئين متشابهين، بل رفعٌ لحجابٍ بين الظاهر والباطن.
إنها تقول لك: إن معرفة هذه الشخصية ليست مجرد حفظ سيرة أو استحسان خُلُق، بل هي ارتقاءٌ روحي، وصعودٌ إلى مدارج القرب، واستيعاب لحقيقة إلهية كبرى.
هي النور الذي تحدث عنه القرآن: ﴿نُّورٌ عَلَى نُورٍ﴾، وهو ذاته النور الذي تشعّ به معرفة أولياء الله، فمن عرف فاطمة حق المعرفة نال حظًا من هذا النور الذي ﴿تَمْشُونَ بِهِ﴾ في ظلمات الحياة.
ليلتان في قلب واحد
هنا، حيث يتوقف الزمن وينتقل الإنسان إلى عالمٍ روحاني خالص، يشعر بأنه أمام حقيقة مطلقة تذوب فيها الحدود بين الظاهر والباطن.
إنها المقارنة الإلهية التي تفتح للعقل آفاقًا لا تنتهي:
• ليلة القدر
الليلة التي تهتز فيها عروش الملكوت، ويتنزل فيها الجبروت.
هي ليلة خير من ألف شهر… ليلة تحطيم القيود، والانتقال من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ومن سجن الحيرة إلى فضاء اليقين.
• فاطمة الزهراء عليها السلام
هي التجسيد الحي لتلك الليلة، السر المستودع، والنور المخلوق قبل الأكوان.
هي التي قال فيها أبوها صلى الله عليه وآله: “فاطمة بضعة مني”.
ومن عرفها حق المعرفة لم يعرف ابنة نبي فحسب، بل عرف امتداد النبوة، وعصارة الرسالة، ومعدن الولاية.
وهنا تتردد الأسئلة في النفس: ما معنى “حق المعرفة” التي تجعل معرفة إنسان واحد مساوية لإدراك أعظم ليالي الدهر؟
إنها ليست معرفة العقل المجرد، ولا حفظ السير والحكايات.
إنها معرفة تذوقيّة يشترك فيها القلب والروح مع العقل.
هي أن تعرف:
• أنها الصديقة الكبرى التي بلغت من الصدق مبلغًا جعلها تُسمّى بـ”صدّيقة النساء”.
• أنها المحدَّثة التي كانت الملائكة تناجيها كما ناجت مريم بنت عمران.
• أنها المظلومة المنصورة التي غضب الله لغضبها ورضي لرضاها.
• أنها الكوكب الدري في سماء أهل البيت، الذي لا يصل إليه إلا الأطهار.
• أنها الحوراء الإنسية التي جمعت بين طهارة الملائكة وكمال الإنسانية.
أن تعرفها حق المعرفة يعني أن ترى في سيرتها تجسيدًا حيًا للتقوى، وأنموذجًا فريدًا للصبر، وشعلة متوقدة للعلم.
يعني أن تفهم لماذا كان حبها إيمانًا وبغضها كفرًا.
يعني أن تدرك أن معرفتك بها ليست شرفًا فحسب، بل مسؤولية تتخلق بها، وتسير على نهجها.
فهي كمشكاة ذلك النور القرآني العظيم؛ زجاجتها صافية كالكوكب الدري، يُوقد مصباح هداها من شجرة النبوة المباركة.
وهذا ما يجعلك تسأل نفسك قبل أن تنصرف:
هل عرفتَ فاطمة حقًا؟
هل قرأت سيرتها بتدبر وتأثر؟
هل جعلتَ من منهجها نبراسًا يضيء طريقك؟
هل شعرت أن حبها ليس مجرد عاطفة، بل عمل وسلوك وتضحية؟
الآن، اعلم أن بين يديك جوهرتين:
الأولى تتلألأ بصفات من هي كوكب الدُّر في سماء أهل البيت،
والثانية تناديك لتستنبت من هذه الصفات نورًا يسري في وجدانك وسلوكك.
والربط بينهما هو الجسر الذي يعبر بك من شاطئ المعرفة إلى شاطئ الوجود.
فلا تقف عند حدّ البكاء على مصابها، بل ليبكِ قلبك على كل لحظة حادت بك عن دربها.
لا تكتفِ بمعرفة أنها “الحوراء الإنسية”، بل اجعل من طهارتها وكمالها مرآةً تنظر فيها إلى نفسك كل يوم.
وليكن حبك لها صدقًا في القول والعمل، لا مجرد كلمات تتردد.
طوبى لمن جعل من حب فاطمة منهجَ حياةٍ وسلوكٍ وتضحية.
طوبى لمن قرأ سيرة الزهراء فلم يبكِ فقط على مصابها، بل بكى على بُعده عن مقامها.
طوبى لمن نظر إلى حياتها فوجد فيها خارطة تقوده إلى ربه، ومرآة تعكس عليه أنوار رضوانه.
فإن كنت قد أدركت هذه الحقيقة، وشعرت في أعماقك بهذا الرباط المتين، فاعلم أنك قد أدركت ليلة القدر في صميم قلبك.
لأنك لم تعد تبحث عن ليلة في التقويم، بل استقبلت روح الليلة في شخص، صار قلبك محرابًا تتنزل فيه الملائكة، وروحك مركبة تصعد بك نحو المعاني.
وإن كنت لا تزال تشعر بظلمة الحيرة والبعد، فاعلم أن الباب ما زال مفتوحًا، والنور ما زال يشع…
إنها تدعوك باسمك.
فانطلق، لا تتردد، ولا تؤجل.
ولا تكن كمن يموت عطشًا والنهر يجري تحت قدميه.
فإنها فاطمة…
من عرفها عرف كل شيء،
ومن فقدها فقد كل شيء.








اضافةتعليق
التعليقات