تركت واقعة الطف بصماتها في كل مكان، سواء أكان أرضًا واقعية أم مساحة وجدانية تلتمس ثنايا القلب والمشاعر الإنسانية، إذ تشكل مجريات تلك الواقعة المريرة جزءًا لا يتجزأ من قضية عاشوراء، حيث تناولت أحداث ذلك اليوم العديد من الروايات السردية والتشبيهية منذ ظهيرة عاشوراء حتى خروج موكب السبايا إلى أرض الشام.
وفي أثناء رحلة السبي المضنية، كان سبايا الطف (عليهم السلام) يتوقفون بين فينة وأخرى ليستريحوا، إذ تكللت إحدى أماكن الاستراحة ببركتهم، فعلى أرضٍ شاسعة بعيدة عن الناظرين في قضاء عين التمر، غربي مدينة كربلاء المقدسة، شُيِّد مبنى صغير تكلل بقدسية عظيمة، إكرامًا بمكوث سبايا الطف حينما أخذوا قسطًا من الراحة على أرضها، ليحمل ذلك المكان بعد هذه الواقعة اسم (مقام السبايا).
(بشرى حياة) تنقلنا في جولة استطلاعية للتعرف على مقام السبايا...
خدمات بسيطة وأجر عظيم
حدثتنا الحاجة أم صادق قائلة:
"اعتدت على استقبال الزائرين للاستراحة في بيتي الواقع في أطراف مدينة كربلاء ومرقد الإمام الحسين (عليه السلام)، حيث تحدثت إليَّ إحدى الزائرات بأنها قضت ليلتها في مقام السبايا للتبرك بقدسية المكان واستذكار الواقعة وعيشها بتفاصيلها، إذ كانت ليالٍ موحشة وقاسية، الأمر الذي دفعني للذهاب إلى زيارة المقام للمرة الأولى والتبرك به، والمشاركة في تقديم الخدمات مع المواكب الخدمية، حيث أمست عادة لدي في الذهاب إلى المقام في كل عام، وأنا أعقد النذور به، وفي كل مرة أنال مبتغاي، وأحمد الله على عطائه واختياره لي لأنال شرف خدمة زوّار ابن بنت نبيه الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله)".
فيما قال أحمد علوان، أحد الزائرين المتجهين صوب مدينة كربلاء المقدسة:
"كل عام أنطلق من قضاء عين التمر وأتوجه صوب مدينة أبي الأحرار لأداء زيارة الأربعين، وتكون محطة مبيتنا الأولى في مقام السبايا، هذا المقام الذي يجعلنا نعيش ليلة لا تُنسى، إذ نستحضر في ذاكرتنا تفاصيل لوعة المصاب وقضاء ليالي السبي، ومن بينها ليلة مبيتهم في هذا المكان المبارك، فما إن تدلف إلى المكان حتى ينتابك لوعة تعتصر القلب".
وأضاف: "لقد اعتادت العوائل الكربلائية التي تقطن بالقرب من المقام على إقامة مواكب خدمية، بتقديم ما يحتاجه الزائرون المارّون بطريقهم إلى كربلاء، فضلًا عن توفير سرادق للمبيت، خاصة للرجال والنساء، وإقامة مأتم للعزاء، كما تشرفنا بالمشاركة في خدمة الزائرين ومواكب العزاء".
أرض الخَسِيف
وكانت لنا وقفة مع الشيخ علي عبد الرزاق، ليحدثنا عن مقام السبايا، قائلًا:
"ينقل المؤرخون أنه بعدما انتهت معركة الطف في اليوم العاشر من محرم عام 61 هـ، وبقي عدد من نساء أهل بيت رسول الله (عليهم السلام) دون حُمَاة ودون رجال، ساقوهن الأعداء سبايا، وقد انتهكوا بذلك حرمة الله ورسوله. حيث انطلقت مسيرة السبايا من مدينة كربلاء المقدسة في اليوم الحادي عشر من محرم الحرام، سالكين الطريق إلى الكوفة، ومنها إلى تخوم مدينة الشام، ثم عادوا أدراجهم إلى مدينة جدّهم، المدينة المنورة.
وحينما خرجوا للعودة، سلكوا الطريق الصحراوي لأنه الأقرب والأمثل، والمعروف من حيث توفّر الماء، والذي يخلو من تجمع الناس، حتى لا يُسألوا: من هؤلاء؟ ولا يشمت بهم الأعداء. فنزلوا في أرض تُسمّى (الخَسِيف)، وأقاموا فيها ليلة واحدة، ليواصلوا بعدها رحلتهم المضنية. ثم أمست هذه الأرض بعدها مقامًا يقصده سكان قضاء عين التمر لزيارته في أربعينية الإمام الحسين (عليه السلام)، وبعد عام 2003، تحولت الزيارة إلى يوم الخامس والعشرين من شهر محرم الحرام، في ذكرى وفاة الإمام زين العابدين (عليه السلام)".
قبلة الزائرين
وأضاف: "وبعدما توالت السنوات، أصبح مقام السبايا قبلة يقصدها الزائرون من أهالي عين التمر، والمدن والقرى المجاورة، والسائحين، لإقامة مراسم الزيارة في فنائه، كمواساة لسبايا أهل البيت (عليهم السلام).
حيث يرى الزائرون أن هذا أقل ما يمكن أن يُقدَّم لسبايا الحسين (عليه السلام) في محنتهم العصيبة التي جرت عليهم في ظهيرة يوم العاشر من عاشوراء، وتحملهم قسوة منظر رفع رؤوس ذويهم على الرماح، وهم يسيرون خلف ركبهم مكبّلين بالحبال والقيود، فضلًا عمّا قاسوه من جوع وعطش، وألم سياط العدو التي كانت تتهافت على أكتاف النساء والأطفال الغضة".
وختم حديثه قائلًا:
"لقد اعتاد أهالي قضاء عين التمر على افتراش الطريق المؤدي إلى مقام السبايا بمواكبهم البسيطة، بين ماء وعصائر وتحضير لوجبات الطعام للوافدين من الزائرين، كنوع من رمزية التبرك والقربان للمشاركة بمراسيم العزاء في شهر محرم الحرام، لينالوا بذلك شرف المشاركة في الخدمة الحسينية، فهنيئًا لكل من شارك في المسير والخدمة، ليسجل اسمه ضمن خُدّام الحسين (عليه السلام)".
اضافةتعليق
التعليقات