في غمار الحياة، تتوه الخطوات أحيانًا وتتشتت الدروب، وتظل الروح تبحث عن مرساة، عن نقطة انطلاق لا تكون مجرد بداية، بل وجهة تمنح للحركة معنى وللجهد قيمة. إنها قيمة الهدف، تلك البوصلة الخفية التي تمنح للإنسان القدرة على تجاوز عثرات الطريق وتحويل العقبات إلى مجرد محطات عبور. فكل عمل بلا غاية سامية هو جهد بلا ثمرة، وكل مسير بلا وجهة محددة هو تيه في فضاءات لا نهائية.
ولعلّ أعظم الشواهد المعاصرة على عظمة الهدف وتجلياته الروحية، هي زيارة الأربعين.
زيارةٌ بدأت بخطى عاشقة، تهمس عند أعتاب كربلاء: "لبيك يا حسين". ثم تحوّلت إلى ظاهرة كونية، تهتف بها أرواح الملايين من كل فجّ، شرقًا وغربًا، جُرْدًا ومَدَرًا، تقطع بها المسافات، لا لترفٍ دنيوي، بل لأنها آمنت بأنّ الحسين غاية، وأنّ خطاه نهج.
زيارة الأربعين أنموذج فريد على أن من حدد هدفه، تهون دونه المشاق. فالزائر لا تُغرّبه الغربة، ولا يثنيه المرض، ولا تمنعه قلة الزاد.
إنه يعلم أن الخطوة ليست في الطريق، بل في اتجاه القلب. وحين يستقر القلب على "كربلاء"، تُصبح الأرض كلّها ممشى، وتُصبح السماء مظلّة لهذا الشوق.
قال الإمام الصادق (عليه السلام):
"من أتى قبر الحسين ماشياً، كتب الله له بكل خطوة حسنة، ومحا عنه سيئة".
أي أن الخطى لا تُقاس هنا بالبُعد، بل بالمقصد، بالنية، بالانتماء.
فمن كان هدفه إلهيًا، فإن الطريق إليه يصير زادًا، والتعب راحة، والموت حياة. وكم من زائرٍ اختبر على درب الزيارة ألم القدم، لكنه كان في قلبه يطير، لأنه أدرك أن مشقّته ليست إلا تمهيدًا للوصل.
هنا، تتجلّى فلسفة الهدف: أن لا يكون للذات فقط، بل للحق. أن لا يكون طموحًا فارغًا، بل رسالة. أن لا يكون مجدًا زائفًا، بل أثرًا خالدًا. وهذا ما جسّدته زيارة الأربعين، حين حوّلت الألم إلى أمل، والسير إلى ثورة.
قال الإمام الحسين (عليه السلام):
"إني لم أخرج أشِرًا ولا بَطِرًا، إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي".
وهذا هو لبّ كل هدف نبيل: أن لا يكون دافعًا فرديًا، بل نهوضًا جماعيًا، ومسؤولية أخلاقية.
وهكذا، ليست زيارة الأربعين رحلة عابرة، بل هي تمرين على الحياة، درس في الإصرار، وصلاة تمشي على الأرض. كل زائر فيها يخطّ بقدمه حكاية هدف، ويشهد بقلبه أن العشق حين يصير هُوية، لا يعود طريق الحسين طريقًا وعِرًا، بل هو الصراط المستقيم.
تلك الزيارة التي كانت في بدايتها مجرد إحياء لذكرى، خطوة يخطوها قليلون وفاءً لرمز خالد. لكنها، وبمرور الزمن، تحولت إلى هدف سامٍ يترسخ في قلوب الملايين. ولم تعد مجرد زيارة، بل أصبحت رحلة وجودية، شعيرة تتبلور فيها الغاية الأسمى من كل جهد وعناء. لقد كبرت هذه الزيارة لتكون حلمًا يتجدد كل عام، يوقظ في النفوس الأمل ويمنحها القوة لتجاوز ما يبدو مستحيلًا.
إن المتأمل في مسيرة الزائر الأربعيني يرى تجليًا حيًا لفلسفة الهدف. فهو يواجه مسافات طويلة، وأجواء قاسية، وإرهاقًا يثقل الجسد. قد تحاول المتاعب والمصاعب أن تثنيه، لكن شيئًا ما في داخله يدعوه إلى المضي قدمًا. إنه الهدف الأسمى، تلك الوجهة التي تشع من بعيد، وتجعله يتحمل كل شيء. فالآلام الجسدية تصبح تضحيات مقبولة، والإرهاق يتحول إلى وسام شرف، والمشقة تُنسى في حضرة الغاية الكبرى. هنا تتضح الحكمة الفلسفية: أن الإنسان حين يحدد وجهته بوضوح، يصبح كل ما دونها مجرد تفاصيل عابرة. فالقوة الحقيقية لا تكمن في الجسد، بل في الروح التي تستمد عزيمتها من يقينها بالوصول.
لذا، فالحياة رحلة، وكربلاء هي وجهة رمزية لكل هدف نبيل. إنها دعوة لكل واحد منا أن يحدد بوصلته، وأن يرفع عينيه عن الصعوبات الصغيرة ليراها في سياقها الأوسع. فحين يتضح الهدف، تتيه الأمور وتتيسر السبل. وتتلاشى العوائق أمام الإرادة، لأن الإنسان الذي يعرف إلى أين يمضي، لن يستوقفه شيء.
فحين يُولَد في روح الإنسان هدف، تنبت له أجنحة، ويكتسب القدرة على اقتحام المستحيل. فالهدف ليس مجرد فكرة مؤجلة أو أمنية عابرة، بل هو قبلة القلب حين يختار أن يتجه، وهو النور الذي يشق ظلمة الحياة حين تكثر المتاهات. فالإنسان بلا هدف كالسفينة بلا شراع، يتقاذفها التيار ولا ترسو على ضفاف اليقين.
من هنا، تنبع أهمية الهدف، لا باعتباره أداة لتحقيق مكاسب دنيوية، بل بوصفه بوصلة الوجود. فهو يمنح المعنى لكل ألم، ويجعل من الصبر مقامًا، ومن التضحية شعيرة. ولأجل ذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام):
"قيمة كل امرئٍ ما يُحسن"
أي ما يحمل في قلبه من غاية، وما يسعى إليه من سموّ. وما أسعد القلب حين يعرف وجهته... وما أقدس الخطى حين تمضي نحوها.
اضافةتعليق
التعليقات