حين تُطوى الرايات، وتخفت طبول المواكب، وتعود الخطى التي نَثرت غبارها على دروب كربلاء إلى رتابة البيوت والعمل وتشحُ الأنفاس يصمتُ الكونُ للحظة وتبدأ الحياة من الحياة، قد تَحسب بعضُ القلوب أن الموسم قد انقضى. لكنَّ من تعلّم من الحسين (عليه السلام) يدرك أنّ مواسم النور لا تُحاصر بزمن، ولا تُحَدّ بزمان زيارة أو أربعين؛ لأن الحسين ليس حادثةً تُروى، بل مِعيارٌ تُقاس به القلوب والأيام. ومنه تبدأ الحياة لذلك كان شعار العارفين: كلّ يومٍ عاشوراء، وكلّ أرضٍ كربلاء؛ شعارًا لا يُعلَّق على الجدران فحسب، بل يُحفر في السلوك والضمير.
إن الشعار ليست جملةً تُردَّد لتسكين الشوق، بل مِفصلٌ فلسفيّ وأخلاقيّ، كلّ يومٍ عاشوراء: أي أن امتحان الولاء والحقّ يتكرّر كلَّ صباح؛ تُعرض علينا خياراتٌ صغيرة وكبيرة—صدقٌ أو تلوّن، نصرةٌ لمظلوم أو صمتٌ بارد، ورعٌ في الحلال والحرام أو تهاونٌ يعتذر بالظروف.
وكلُّ أرضٍ كربلاء: أي أنّ ميادين الوقوف إلى جانب الحق ليست محصورةً برمال الطفّ؛ هي البيتُ والسوقُ والوظيفةُ والجامعةُ وممرات الحياة كلّها. حيثُ تكون أنت ويكون الحقّ، فثمّة كربلاء. وبهذا المعنى، لا ينتهي موسم الحسين إلّا إذا انتهى فينا الإحساس بالمسؤولية، ولا تزال راية كربلاء مرفوعةً ما دامت القلوب تقاوم الغفلة، والعيون تحتفظ بملح الدمع، والأيدي تُحسن حيث تستطيع.
إن محاولةُ الثبات جهادٌ ضدّ الغفلة فذكر الحسين جهادٌ خفيّ؛ لأن الغفلة تَنسِلُ بين الأعمال اليوميّة على مهلٍ، فتُطفئ جذوة الولاء شيئًا فشيئًا. لذلك فالمطلوب ليس “ذكرًا موسميًا” تَقوى حرارته ثم تخبو، بل رياضةٌ قلبيّة تُكرّس الذكر حتى يغدو عادةً راسخة.
ابدأ يومك بتحيّةٍ للحسين: “السلام عليك يا أبا عبد الله…”؛ فهذه الافتتاحية تُعدِّل بوصلتك قبل اندفاع النهار. ولنواجه ضجيج الحياة بلحظات صمتٍ تُسمّى: وقفة عاشوراء—دقائِقُ تأمّل في معنى التضحية والصدق، قبل قرارٍ صعبٍ أو توقيعٍ مسؤول أو كلمةٍ قد تجرح. وإذا شعرنا بثقلِ القلب، فالنستعد مشهدًا من الطفّ: طفلًا يُعطش، أمًّا تفقد ولدًا، فارسًا يختار الحقّ وحيدًا… هذه الصور ليست لاستدرار الدمع فحسب، بل لتذكير الإرادة بأنّ الكرامة ثمنُها عالٍ، وأنّ طريق الحسين لا يُسلك بخطى مرتابة.
ولتكن هذه الشعائر تحولا لنا حتى لا يضيعَ التعب سُدًى فالشعائر متعبة كالخدمة والمشي واللطم والبكاء. هذا الجهدُ أمانة. وأخوفُ ما نخاف أن يذوب في مجرى أيامنا سُدًى. فالمعيار الحقيقي لصدق الشعيرة أن تترك أثرًا أخلاقيًّا واجتماعيًّا بعد انقضاء الموسم
فإن كان اللطمُ حماسًا في الساحة، فليكن لطمًا للهوى في الخلوة قهرٌ للنفس وإذابة الحقد والغل من الصدر.
إن كان المشي تعبًا في الطريق، فليكن مشيًا إلى الصلة، صلة رحمٍ قُطعت، أو زيارة مريضٍ أهملناه، أو حتى تقوية صلتنا بإمام الزمان، وهذه صلة العرفاء.
وإن كانت الخدمة سقايةً وإطعامًا، فلتَصِر عادةَ كرمٍ لجارٍ معسرٍ أو طالب علمٍ محتاج. هكذا تتحوّل الشعائر إلى أخلاق، ويصير الموسم مدرسةً لا مهرجانًا.
وللنظم لنا برنامجًا عمليّاً بعد الموسم حتى تكن مقولة "كل يوم عاشوراء، وكل أرض كربلاء" تطبيقًا وليست كلامًا يُردد.
اضافةتعليق
التعليقات