رصدنا في جولتنا الميدانية بين الزائرين العديد من النساء والشباب والشيوخ، وحتى الأطفال، يحملون رايات مختلفة الألوان في رحلة مسيرهم التي امتدت من قعر بيتهم حتى دخولهم إلى تخوم مدينة كربلاء المقدسة.
ارتأت (بشرى حياة) التقصي حول غايتهم المنشودة من حملهم لهذه الرايات، وما هو البعد الفكري والوجداني منها...
ألوان الرايات ودلالاتها
في الطريق إلى كربلاء، تتنوع الرايات بين الأسود، والأخضر، والأحمر، والأبيض. ولكل لون دلالة؛ فالأسود يعكس الحزن والمواساة، أما الأخضر فرمز الأمل والانتماء لأهل البيت، والأحمر يرمز للدماء والشهادة، بينما الأبيض يعبّر عن النقاء والسلام.
يقول مهند سلمان، أحد الزائرين من أهالي مدينة الناصرية:
"رايتي سوداء لكنها محمّلة بالنور. أحملها من بيتي إلى أن دخلتُ مدينة كربلاء المقدسة، لأخبر العالم أن الحسين لا زال حيًّا في ضمائرنا. وقد اعتدتُ على حمل الراية في كل عام، والمسير بها، ولا أشعر بأيّ تعب أو تثاقل من حملها."
وأضاف: "كما أن هناك نساءً كثيرات يعقدن النذور بربط أطراف الراية أثناء مسيري، خصوصًا مَن لا تستطيع المسير إلى كربلاء؛ فعقيدتهن أن ربط الراية سيمنحهن نيلَ مرادهن، سواء بانقضاء حاجة أو نيل ثواب الزيارة."
بُعد اجتماعي
كما تحمل الرايات بعدًا اجتماعيًا مهمًا، فهي تُستخدم لتحديد مواكب الزائرين، وجمع الأفراد من مناطق أو بلدان أو عشائر واحدة تحت راية واحدة، مما يعزز روح الجماعة والوحدة.
حدثنا مسلم الخزاعي من مدينة النجف الأشرف، قائد أحد المواكب في المسير، قائلًا:
"رايتنا تجمعنا وتعلّم أبناءنا أن الطريق إلى كربلاء ليس فرديًّا، بل مسار جماعي يُبنى على التضامن. فإذا افترقنا في مكان عام، نستدل على مكان بعضنا من خلال شعار ولون رايتنا الخضراء، التي يتكفّل بحملها شباب في مقدمة المسير."
فيما قالت الحاجة أم هادي، إحدى الزائرات من مدينة البصرة:
"كتبتُ اسم ابني الشهيد على رايتي الصغيرة هذه، وأنا أحملها طوال الطريق إلى الحسين (عليه السلام)، لأقول له: (هذا ابنك يا أبا عبد الله، سَجّلني أني ويا مَن زوّارك)."
سارية واحدة
ومن بين حشود الزائرين، شاهدنا عن بُعد فتى متأزرًا بسارية ترفرف أعلاها رايتان: راية للإمام الحسين (عليه السلام)، وراية العراق، أرض السلام. إذ شكّلت لوحة ذات مدلول ورسالة تختزل الكثير من المآثر والمناقب والعِبَر، وكأنه يقول:
"سيبقى العراق أبدًا منتصرًا، يسمو فوق جراحه ومعاناته، ويُحقق مبتغاه، كالحسين (عليه السلام)، الذي يتجدد نصره مع كل صوتٍ يصدح بالحق."
رؤية إعلامية
حدثتنا الإعلامية عفاف الغزالي، قائلة:
"من خلال سنوات من المتابعة والتغطية الميدانية لمواكب العزاء، بقي مشهد الرايات الحسينية يحمل لي معنى خاصًا يتجاوز البُعد البصري والمشهدي. كإعلامية، رأيتُ فيها أكثر من مجرد قطعة قماش تُرفرف فوق الرؤوس، بل إنها إعلان صامت، لكنه بالغ التأثير، عن استمرار القضية، وامتداد الثورة الحسينية في وجدان الناس."
وتابعت:
"إن شعيرة حمل الرايات، كما أفهمها من قلب الحدث، هي لغة أخرى من لغات الولاء؛ تُرفع لا لتُرى فقط، بل لتُفهم. هي ليست للعرض، بل للربط؛ إذ تربط الماضي بالحاضر، والذاكرة بالفعل. ففي كل راية ترتفع، أقرأ إصرارًا جماعيًا على ألا تُنسى كربلاء. وأشعر أن الناس يُمارسون فعل المقاومة الرمزية ضد محاولات الطمس والنسيان. فكل يد تحمل راية، تحمل معها رسالة: (كربلاء لا تزال تنبض، والراية لم تسقط). وهنا يكمن سر هذه الشعيرة؛ إذ إنها ممارسة وجدانية وهوية حضارية، تُعلن أننا لسنا مجرد روّاد عزاء، بل ورثة لقضية، وتأكيد بأن الحسين (عليه السلام) لا يزال قائدنا، وأن الحق لا يزال له راية تُرفع."
رمز يتجاوز الشكل
ويرى الباحث الاجتماعي حسنين عقيل الغرابي، أن الرايات ليست مجرد قطع قماش تُكتب عليها عبارات حسينية أو أسماء عشائر وبلدان، بل هي تعبير عن انتماء عقائدي، وإعلان عن موقف، وتذكير دائم بأن الحسين (عليه السلام) لم يُقتل وحيدًا، وأن محبيه ما زالوا على العهد باقين.
وأضاف: "الراية في المسير تحمل بُعدًا رمزيًا يتجاوز الشكل، ومتجذرًا في الوعي الشيعي، فهي امتداد لراية العباس (عليه السلام)، وتعبير عن الولاء والالتزام بقيم الثورة الحسينية."
مشروع خالد
يشهد العالم كل عام مسيرة تُعد من أعظم المشاهد الإنسانية والدينية، حيث يتوافد ملايين الزائرين إلى مدينة كربلاء المقدسة سيرًا على الأقدام لإحياء أربعينية الإمام الحسين (عليه السلام).
وبين حشود الزائرين، تلوح رايات بألوان وأحجام مختلفة، تُرفع عاليًا فوق الرؤوس، لتُصبح رموزًا تتقدم الجموع وتروي قصة أمة لم تنسَ شهيدها، ولم تنكسر أمام محاولات طمس هويتها.
ففي طريق الأربعين، لا تُرفع الرايات عبثًا، بل تُحمل بعقيدة، وتُرفرف بأيدٍ تؤمن أن الحسين (عليه السلام) مشروع خالد للكرامة والعدل. ومثلما كانت راية العباس (عليه السلام) دليلًا في الطف، صارت رايات الزائرين مشاعل هداية في زمن الضياع.
اضافةتعليق
التعليقات