في عالمٍ يخون العهود، وأمّةٍ تتبع ظلّها، كان يسطع نورُ ذاك الدار بشكلٍ استثنائيّ، محاطٍ بآيات الرحمن، وخُتم على صدور ساكنيه:
﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾.
سطع النورُ وزاد ضياءً جديدًا يحمل معه صفةَ الصبر بهيئةِ ملاكٍ إنسيةٍ، تنشر في المهد عبيرَ المنبتِ الطيّب، وتلوح في طلعتها المشرقة ووجهها الصبيح ملامحُ آباءٍ وأجدادٍ لها كرام.
انتقلت من يدِ سيّدة نساء العالمين إلى يد الإمامة فجوهر النبوّة، حتى صاغها الخالقُ أجملَ صياغة، فكانت هي زينب عمقَ الرسالة الحسينيّة، وعمّةَ الأئمّة، وزهرةَ النبوّة.
هي التي وُلدت بين أحضانِ من قال فيهم القرآن: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ﴾، فرُزقت من حبّهم ما لم تُحْظَ به امرأةٌ في عصرها؛ بقلبٍ يخفق بين المهابة والفرح، وروحٍ ترفرف من عظمة ما حملت.
وُلدت كأنشودةِ نورٍ في ظلمة الزمان، وبزوغِ نجمٍ في ليلِ الغربة الطويل.
وُلدت وهي تحمل بين ضلوعها قلبًا محشوًّا بحبّ الرسالة، نسخةً من قلب أمّها الزهراء، وارثةً منها أنّ الحبّ عطاءٌ بلا حدود.
وبين يدي أبيها البطل أمير المؤمنين، تعلّمت أنّ الحبّ شجاعةٌ تتحقّق في لحظاتِ الحقّ العظيمة.
ورافقت أخويها الحسنَ والحسين، فتشبّعت بروح التضحية والعطاء، فلم تكن مجرّدَ ابنةٍ لعائلة، بل كانت ثمرةً من ثمار الوحي، زهرةً من بستان النبوّة، وعالمةً غيرَ متعلّمة كما وصفها الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين عليه السلام مخاطبًا إيّاها بقوله:
“أنتِ ـ بحمد الله ـ عالمةٌ غيرُ مُعَلَّمة، وفَهِمةٌ غيرُ مُفَهَّمة”.
السيدة زينب في حديث الإمام زين العابدين
من روضة النبوّة نبتت تلك الزهرةُ الجديدةُ من أطهر منبتٍ، وتفتّحت في أحضانِ أكرمِ بيت.
إنّها السيدةُ زينب الكبرى، الحفيدةُ التي جسّدت بوجودها امتدادَ النور الفاطمي، واستمرارَ الحكمة العلوية.
تلك التي صدرت في حقّها كلماتٌ من قدوةِ العارفين الإمام زين العابدين عليه السلام حين قال لها:
“أنتِ ـ بحمد الله ـ عالمةٌ غيرُ مُعَلَّمة، وفَهِمةٌ غيرُ مُفَهَّمة”.
بوصفٍ دقيقٍ ومحكمٍ يحمل بين ثناياه أعظمَ وصفٍ لعقيلة بني هاشم.
فهو ليس مجرّدَ ثناءٍ، بل تشريحٌ لحقيقة علمها، وتفسيرٌ لسرّ فهمها، وهي تكتسب أبعادًا أعمق:
• عالمة غير مُعلَّمة: علم الولاية والنور المحمدي
لم تكن عبارةُ العالمة غير المعلَّمة تعني أنّها لم تتلقَّ العلمَ من مصادره، فهي ابنةُ بابِ مدينةِ علمِ رسول الله، أميرِ المؤمنين عليه السلام.
بل إنّ معنى غير معلَّمة يشير إلى أنّ منبع علمها لم يكن مجرّد نقلٍ وسماعٍ فحسب، بل كان علمًا لدنيًّا ينبع من صميمِ ارتباطها بالوحي.
فهي سليلةُ بيتِ النبوّة، والمحيطةُ بآياتِ الله، فكان علمُها كشفًا قبل أن يكون اكتسابًا، وإلهامًا من الله تعالى قبل أن يكون أخذًا من بشر.
فقد عاشت في بيتٍ قال الله تعالى في أهله: ﴿وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾، فطهارةُ القلب من الرجس تفتح أبوابَ المعرفة واليقين.
ومدرسةُ الجدّ والوالد كفيلةٌ بأن تجعلها تغترف من بحر علمهم، ومدرسةُ أمّها فاطمة الزهراء جعلتها أطهرَ نساءِ قومها، فلم تكن بحاجةٍ إلى معلّمٍ من خارجِ دائرة العصمة، لأنّ معلّمها هو الوحيُ نفسه بامتداده الغيبي.
وهي التلميذةُ الأبرزُ للحدث العظيم، وأبرزُ مثالٍ على ذلك واقعةُ كربلاء؛ ففي تلك الأيام تجلّت حكمتُها وعلمُها في فهمها العميق لرسالةِ أخيها الحسين عليه السلام، وفي قدرتها على تفسير الحدثِ الجلل تفسيرًا إلهيًّا يحوّل المأساة إلى انتصار، والمقتلَ إلى منبر.
• فَهِمة غير مُفَهَّمة: الفطنة النادرة وحكمة القلب
أمّا كونها فهمة غير مفهَّمة، فهو إشارةٌ إلى ذكائها الفطري وعمق بصيرتها التي تجاوزت حدودَ عمرها وواقعها.
فهي لم تحتج إلى من يشرح لها الأمور أو يوضّح لها الغوامض، لأنّ نور الإيمان كان يكشف لها الحقائق كما هي.
فهمةٌ بلا وساطةٍ، لأنّ قلبها الموصول بالله كان مرآةً تعكس الحقائق بلا تشويه.
لقد فهمت رسالةَ كربلاء بكلّ أبعادها السياسية والاجتماعية والدينية من أوّل لحظةٍ دون حاجةٍ إلى تفسير.
وكانت فطنةُ الموقف، وتجلى هذا الفهمُ العميق في مواقفها كلّها، منذ خروجها من المدينة، ومرورًا بيوم الطفّ، وما بعده من مواقف في الكوفة والشام، حيث كانت تنظر بنور الله، فترى ما لا يراه الآخرون، وتفهم من الأحداث ما يعجز عن فهمه كبارُ القادة والخطباء.
لتصبح المترجمةَ الحقيقيةَ لرسالة الحسين عليه السلام، فحوّلت دموعَ المصيبة إلى ثورةٍ في الضمير، والهزيمةَ الظاهرية إلى انتصارٍ ساحقٍ للقيم، فكانت العنوانَ الخالدَ للعالمة الربّانية.
وإنّ في قول الإمام زين العابدين عليه السلام لعمّته زينب عليها السلام إعلاءً لمقامها وتثبيتًا لدورها كأحدِ أركانِ الهداية بعد كربلاء.
فهي لم تكن مجرّد ناقلةٍ للحدث، بل كانت مفسّرةً له، وقارئةً لمستقبل الرسالة من خلاله.
ولو غصنا أكثرَ في بحر السيدة زينب عليها السلام لأدركنا أنّ العلمَ الحقيقيّ هو ذلك المتصلُ بمصدر النور الإلهي، وأنّ الفهمَ الصحيح هو ثمرةُ القلبِ السليمِ المتصل بالله.
لقد جسّدت قولَ الله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾، فكانت العالمةَ المعلَّمةَ من ربّها، الفهمةَ المستنيرةَ بنوره.
فهنيئًا لأمّةٍ كان في تاريخها زينب، تذكرها عندما تظلم السبل، وتستلهم منها عندما تشتدّ العثرات.
فاللهمّ اجعلنا من المتبعين لنورها، المقتفين أثرها، المستمسكين بحبل ولايتها، فقد علّمتنا أنّ البقاء ليس للأقوى، بل للأصلب عودًا، والأقوى إيمانًا، والأعمق يقينًا.
فالسلام عليكِ يا من جعلتِ من الأسر حرّيّة، ومن الصمت صوتًا، ومن الظلام نورًا.








اضافةتعليق
التعليقات