في عام 2011، تقدّم الحقوقي النمساوي ماكس شريمز بطلب قانوني غريب في شكله، عميق في مضمونه: أراد أن يعرف ما الذي تعرفه عنه شركة فيسبوك. وبعد نزاع طويل مع المحاكم، تسلّم أسطوانة تحتوي على أكثر من ألفٍ ومئتي ملف بصيغة PDF لم يكن الأمر مجرد قائمة أصدقاء أو بعض الصور والمنشورات؛ بل كان أرشيفًا مهولًا يضم كل صفحة نقر عليها، وكل إعلان مرّ أمام عينيه، وكل ثانية قضاها على التطبيق، سواء تفاعل أو لم يتفاعل. كانت تلك اللحظة أشبه بكشف الحساب، لكنها ليست حسابًا أخرويًا، بل حسابًا دنيويًا على يد خوارزميات جامدة.
لقد كانت تلك الحادثة صدمة كشفت للإنسان هشاشته أمام آلة الرصد الحديثة. ومع مرور أكثر من عقد، تضخمت التقنية بما يجعل الإنسان أشبه بكائن مكشوف لا يملك سترًا. كل حركة تُرصَد، وكل لحظة تُؤرشف، وكل أثر يتحول إلى رقم. ومع ذلك، تبقى كل هذه الإحصاءات البشرية مجرد صور ضبابية أمام الإحصاء الإلهي الذي لا يغيب عنه شيء، والذي قال عنه القرآن الكريم: ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾.
إنّ الملائكة الموكّلين بالإنسان لا يكتفون برصد خطواته في العالم المرئي، بل يدوّنون أنفاسه، وحركات قلبه، وما دار في خياله من نيات وعزائم. هنا الفارق الجوهري: شركات التقنية تجمع البيانات لتستثمرها في الدعاية والربح، أما الملائكة فيجمعونها ليُعرض على الإنسان يوماً ما سجلّ شامل دقيق، لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. إنها إحصائية سماوية لا تقبل الخطأ ولا النسيان، حيث تُرفع الأعمال مكتوبة بمداد الحقيقة، لا بمداد الخوارزميات.
وإذا كان الإنسان قد فزع حين اكتشف أن فيسبوك يعلم عنه ما لا يتذكره هو عن نفسه، فكيف سيكون موقفه يوم القيامة حين يرى كتابًا مفتوحًا يسرد عليه كل ما نسيه، بل ما لم ينتبه يومًا أنه فعله أو فكّر فيه؟ حينها لن يكون أمامه إلا الإقرار:
﴿مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا﴾.
وفي قوله تعالى:
(مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)
فإذا كان العقل البشري قد اهتزّ أمام مجرّد أرشيفٍ رقمي أنشأته شركة تبحث عن الربح، فإنّ الوعي لا بد أن يرتعد أمام الأرشيف الأبدي الذي لا يحوي أرقامًا وصورًا فحسب، بل يسجّل مقاصد القلوب، وخفايا الضمائر، وما توارى عن أعين الناس. هناك، لا شيفرات تحجب، ولا قوانين تستأنف، بل يقف الإنسان عاريًا من كل تبرير، يواجه ذاته في أنقى مرآة وأقساها.
وهكذا يُدرِك المرء أن الحياة كلّها لم تكن سوى لحظات تتجمع في كتابٍ واحد، كتابٍ يُتلى على صاحبه ذات يوم بلسان الحقّ، فيكتشف حينها أنّ العدالة المطلقة لا تحتاج إلى شهود، لأنّها محفورة في ذاكرته، ومسطّرة في سجلات الملائكة. وما أشدّ فداحة أن يُفاجأ الإنسان بأن ما ظنّه هينًا، كان في ميزان الغيب عظيمًا.
اضافةتعليق
التعليقات