لم يكن الطريق إلى كربلاء مجرد مسافة تُقطع بالأقدام، بل هو حكاية حب تُسطرها الأرواح قبل الخطى. كل زاوية على هذا الدرب تحمل رائحة ذكرى، وكل نداء ينطلق من موكب أو دار ينعش في القلب حنيناً لا يفتر، مهما تقادمت السنين.
أكثر من سبعة عشر عاماً مرّت منذ أن سرت أول مرة مع الزائرين، وأنا طفلة لا تدرك سوى أنها تحب الحسين (عليه السلام). كان التعب يسحبني أحياناً، لكن الخوف من فوات المسير كان يدفعني للنهوض، لأن البقاء مع القافلة كان حلماً لا أريد أن أفيق منه.
في تلك الأيام، كانت المواكب أقل عدداً، وأغلب البيوت القريبة من الطريق تفتح أبوابها للزوار مع غروب الشمس، ينادي أصحابها بلهفة: (بات يمّنا يزاير). لم نكن نملك رفاهية الاختيار، لكن كرم الناس كان يغنينا عن كل شيء.
ومع تعاقب الأعوام، تبدّلت معالم الطريق. أصبح أكثر أمناً وامتلأ بالمواكب والخيم والخدمات. جاءت الحسينيات من كل المحافظات والدول، يطبخون، يوزعون، ويخدمون بلا كلل. حتى الطعام بات يحكي لهجات المدن ونكهات الشعوب: من النجف إلى البصرة، ومن الريف إلى المدينة، من العراق إلى إيران ولبنان وباكستان، كل يقدم بطريقته، ويخدم بروحه.
وفي خضم هذا السيل البشري، تبرز عظمة النساء. نساء تركن بيوتهن طوعاً، وجعلن من خدمتهن للحسين مشروعاً روحياً، لا يعرف التعب ولا التراجع. يقمن بإعداد الطعام، يصنعن التمرية، يعجنّ الحلاوة، ويقدمن خبز السياح وخبز التنور، وبعضهن يبدأن إشعال نار الحطب فجراً كي يخبزن بحب قبل أن يستيقظ الطريق.
هذا التلاحم، حين تراه بعينك، يجعلك تتساءل كيف اجتمع كل هذا العطاء في مكان واحد؟ كيف تقاطرت هذه القلوب من شرق الأرض وغربها لتلتقي عند أعتاب كربلاء؟ الإجابة واحدة: إنه حب لا تفسره المصالح، ولا تُحرّكه الدوافع العابرة، بل عقيدة تنبض من عمق الفطرة، وتُسقى بالدموع والشوق.
هي ليست مجرد خدمة، بل صورة من صور العشق الحسيني المتوارث، وذاكرة لا تتلاشى، بل تزداد ثباتاً مع كل خطوة نحو الضريح الطاهر.
اضافةتعليق
التعليقات